بقلم : الناقدة والأديبة مادونا عسكر/ لبنان
حيث يكون عقلك يكون كنزكَ. وبقدر ما يرتقي العقل ويتثقّف يتنقّى من شوائب مرض الجهل ويستقبل الصّور والأفكار بمنطق يعلو فوق الغرائز وفوق (ميكانيزمات) التّفكير المحدود فيكون الكنز المعرفة والغنى الفكريّ. لا ريب أنّ تثقيف العقل يحتاج إلى تدريب طويل وإرادة حقيقيّة عازمة على درء الجهل، وإلّا فكيف ترتقي الشّعوب وكيف ينتقل الشّخص من مشروع إنسان إلى إنسان؟
استكمالاً لمبدأ كيفيّة تلقّي القارئ للنّصوص الأدبيّة وخاصّة الشّعريّة منها، لا بدّ من رصد حالة القارئ في تلقي روح النّصّ الدّينيّ في النّصوص الشّعريّة. فقصائد كثيرة خلقت جدلّيات واسعة في ما يخصّ استخدام النّصّ الدّيني في القصيدة أو استدعاء “الله” في النّصّ الشّعريّ. قد ينفر بعض القرّاء من هذا النّصّ أو ذاك بحجّة التّعدّي على النّصّ الدّينيّ أو تحويل المعنى المقدّس لاستهلاكه في نصّ شعريّ. وقد يكفّر الشّاعر ويتّهمه بالإلحاد، معتبراً إيّاه عدوّاً للإيمان القويم، بل عدوّاً لله. ولمعالجة هذا النّوع من التّلقّي لا بدّ من أن يُفهم هذا النّوع من القرّاء لتمييز طريقة تفكيرهم ليكون بالإمكان الارتقاء بهم، فهدف الأدب الأساسيّ المرتبط به هو الارتقاء بالشّعوب وتحضّرها الفكريّ واستعدادها النّفسيّ لقبول الأفكار ومناقشتها واحترامها.
لا بدّ للقارئ من أن يعلم أوّلاً أنّ النّصّ الدّينيّ شيء والنّصّ الشّعريّ شيء آخر. ما يدعو إلى الفصل بين اللّاهوتيّ والشّعريّ، وبين دور النّصّ الدّينيّ ودور النّصّ الشّعريّ. إلّا أنّه لِفهم القارئ الممتعض من هذه النّصوص يلزم شرح (ميكانيزم) التّفكير المتديّن الواحد عند كلّ المتديّنين المتزمّتين. وهنا عليّ أنّ أفرّق بين المتديّن والمؤمن. فقد لا يكون المتديّن مؤمناً من ناحية الارتباط بالله، وإنّما قد يكون مرتبطاً بمنظومة الدّين الخائفة دائماً على العقيدة، وكأنّ العقيدة هشّة لدرجة أنّه يمكن لأيّ شيء أن يزعزعها. لذلك فهو يترصّد أيّ خلل يمكن أن يطرأ على المعنى النّصّيّ ظنّاً منه أنّه بتبدّل الحرف أو بإخراجه من الحرفيّة النّصّيّة تتبدّد العقيدة. كما يعتبر أنّ النّصّ الدّينيّ المقدّس لا ينبغي أن يخرج من الإطار الدّينيّ حتّى لا يتداخل مع أفكار أخرى تنزع عنه قدسيّته. يعتبر المتديّن المتزمّت أنّه يخدم النّصّ والحرف وليس العكس. إلّا أنّ النّصّ الدّينيّ حاضرلخدمة إنسانيّة الإنسان وليس سلاحاً في يد المتديّن يحارب به العقل والشّعور.
تختلف تقنيّات النّصّ الشّعريّ قطعاً عن تقنيّات الشّروحات الدّينيّة، والشّاعر حين يكتب قصيدة يستدعي روح المعنى المقدّس لأهمّيّته ولحضوره ولجلاله وقيمته الإنسانيّة أوّلاً نازعاً عنه قداسة الحرف، لأنّ قداسة المعنى أقوى. والشّاعر الحقيقيّ هو من تكتبه القصيدة، القصيدة الخارجة من اللّاوعي تتحكّم بالشّاعر وتفرض نفسها بقوّة. والقصيدة حالة شعوريّة قاسية لحظة انبعاثها، بل هي لحظة وحيٍ أو ما يشبه الوحي فيتمسّك بها الشّاعر لأنّها تعبّر عن أعماق أعماقه.
“إِلَهِي.. إِلَهِي، لِمَاذَا تَخَلَّيْتَ عَنِّي؟ لِمَاذَا تَزَوَّجْتَ مَرْيَمْ؟
لِمَاذَا وَعَدْتَ الجُنُودَ بِكَرْمِي الوَحِيدِ.. لِمَاذَا؟ أَنَا الأَرْمَلَهْ.” (محمود درويش)
هل كان يسعى درويش إلى شرح المزمور الثّاني والعشرين من مزامير داوود، أم أنّه كان يستدعي الحالة الشّعوريّة المرتبطة برمزيّة هذا المزمور؟ في أعماق الشّاعر كما في عقله أسئلة وجوديّة تحتّم استخدام الرّمز لترتقي القصيدة إلى مقام الشّعر. فالشّعر أبعد من حالة تعبير عن الذّات والأفكار. الشّعر لحطة تزاوج الفكر بالمعنى، لحظة البحث غير الواعي. وهنا يحاكي لاوعي الشّاعر لاوعي القارئ فيستفزّ فيه المقصود بالمعنى، إلّا أنّ القارئ الضّيّق الأفق يعتبره تهجّماً على الدّين أو على الآية المقدّسة. وأعود لأقول إنّ الشّاعر مسّ أعمق نقطة في القارئ لذلك استنفر وجيّش ردّات فعله العشوائيّة وإلّا لعبر عن النّصّ دون أن يعتبر.
لو يعلم القارئ المتزّمّت مدى قسوة الحالة الّتي كان عليها أمل دنقل وهو يقول: “خصومة قلبي مع الله، ليس سواه!” ما اتّهمه بالإلحاد. فالقارئ المسكين تعامل مع هذا القول وكأنّه في يوم الحساب إذ نعت دنقل بالملحد. ولم يدرك حالة الأسى المضني والشّاق الّتي جعلت أعماقه مضطربة. (خصومة قلبي مع الله) حالة من الارتباك الشّعوريّ، من الصّدمة بين ما يُرى على أرض الواقع والفهم العام لله. إنّها خصومة القلب المتعب والمتألّم بل هي حالة أشدّ قسوة على الشّاعر ممّا يظنّ القارئ. لحظة خيبة استدعت الحزن والألم. من المهمّ أن يتنبّه القارئ إلى أنّ أمل دنقل قال خصومة قلبي ولم يقل خصومة عقلي، ما يجعله يستدلّ على قسوة الشّعور واضطراب القلب والنّفس.
إنّ القارئ المتزمّت المسكين المندفع للدّفاع عن النّصّ الدّيني في نصّ شعريّ يشعر في عمقه بتفلّت من نظام القطيع. كأنّه يخشى على نفسه من فقدان الحماية. هو يحتمي بفكر الجماعة ويعتبر أنّ أيّ مسّ لهذا الفكر تهديد لوجوده.
الشّاعر شاعر، واللّاهوتيّ وشارح النّصّ الدّينيّ يتّخذان سياقاً آخر لا دخل له في الشّعر ولا بالحالة الشّعوريّة. الشّاعر تكتبه القصيدة وهو أسيرها حتّى تكتبه قصيدة أخرى. وأمّا شارح النّصّ الدّينيّ فهو يعي ما يشرح مستدعياً مخزونه المعرفيّ الدّينيّ أيّاً كان منبعه. والشّاعر ليس معنيّاً بالشّرح العقائدي، كما أنّ القارئ ليس معنيّاً بتتبّع كفر الشّاعر من إيمانه. ما يعني القارئ المعنى الكامن في قلب الشّاعر إذا استطاع إليه سبيلاً. وإن لم يستطع فلا يصدرنّ الأحكام والإدانة وكأنّه موكّل من الله لمحاسبة النّاس. الشّاعر عقل حرّ يودّ التّفاعل مع عقل حرّ مثله حتّى تبلغ القصيدة كلّ المعنى. فإن كان عقل القارئ أسير الأفق الضّيّقة كان كنزه الجهل، وإذا كان عقله حرّاً كان كنزه المعرفة.