أحببتُ تعزية ، هكذا فجأةً كما أيّ حدثٍ عظيم ، ومنذ أوّل وهلةٍ، تذكرت الشافعي العاشق؛ وهو يتجاوز الشافعي الفقيه قائلاً: من لم يتزوّج بشاميّة، مات أعزباً. تذكّرته وصوت من داخلي، من عمق قناعتي لحظتها، يهمس بذهول: “اليمنيّ الذي لم يتزوّج بتعزية ، لم يتزوّج أصلا “. والتعزيات كما يعتقد البعض أكثر فتيات اليمن دلالاً، فليس من بيئة يمنية تحترم الأنثى كالبيئة التعزية ، وهذا لا يدركه سوى من عاش في مدينة تعز فترة. التعزية سيّدة بيتها، ثقلها الوجوديّ في أسرتها لا يقلّ عن ثقل باقي الذكور ، تدرس وتتخطى كل المراحل الدراسية حتى الشهادة الجامعية، تشتغل حيث تريد ، تقود سيارتها وتمضي لشؤونها باستقلالية تامّة ، تعبّر عن قناعاتها أينما كانت، برزانة ووثوقية مدهشتين، ودوماً ما يمنحها الأهل كامل الحرية في الاختيار واتخاذ القرار. أجزم الآن أن بلقيس لم تكن بلقيسَ إلّا لأنّها يمنية ، وأنّها حين ماتت لم تدع لميراثها أن يكون لغير اليمنيات عموما والتعزيات على وجه أخص. التعزية حين تراها؛ لن ترى منها بأفضل الأحوال سوى كفّيها وخصلةً من شعرها الفاحم المنساب تتدلّى من تحت وشاحها، تغطّي أغلب مساحة الجبين ، ثمّ لا يدع لك البرقع تفصيلاً آخر لتراه سوى العينين. وهناك، في تينك العينين، إن تجرّأت وأمعنت النّظر لثانيةٍ وربع الثانية، لن يعود بمقدورك أن تغمض عينيك بعد، أو أن تنام أو تنسى. أحد الأصدقاء أخبرني أنّه صادف في مكتبة الجامعة روايةً لهيرمان هسّه اسمها “تحت العجلة”، ومن حينها وأنا أنتوي الذهاب للمكتبة لاستعارتها، ثمّ يحول كسلي دون ذلك. الرواية لديّ بصيغتها الرقميّة، لكنني أردت قراءتها من الورق. بالأمس، صباح الخميس، نفضتُ عنّي الكسل وذهبت إلى الجامعة، إلى المكتبة، عثرت على الرواية، وهممت بالمغادرة ، وبالكاد أخبرتُ موظفة المكتبة برغبتي باستعارة الرواية ، وناولتها بطاقتي الجامعية لتقيد اسمي في كشف الإعارة الموضوع على منضدة تقع بالقرب منها ، أتاني صوتها ، لم أعرف اسمها، لكنني انتخبت لها بعد ذلك اسم حمامة ، وذلك لحسن ورخامة صوتها ، وقتذاك كان الصبح لا يزال غضّاً، دافئاً، مرحاً، يشي بطفولةٍ ما. وكانت الشمس تعبر الشبابيك لتزهر شعوراً بحبّ الحياة ، جاء الصوت من خلفي ؛ جاء يحمل أجمل سؤال سُئلته : “أنت الكاتب موفق السلمي ، كاتب مقالة ” تعز مدينتي نعم المدينة “؟!”. وقد كنت قبل ذلك أدرك أن للكتابة بركات وفضائل، لكنني حين التفتّ لمواجهة ذلك الصوت أدركت أن الكتابة هي فوق ذلك، وأنّها أجمل الأقدار ، نبرة السؤال أخبرتني عن جمال صاحبته، تلعثمتُ: “نعم، أنا موفق ، لكنني لست واثقاً بشأن الكاتب”. والتقتْ عيناي بعينيها ، وأبحرتُ في اتساعهما، ذلك الاتساع الذي يترك انطباعاً بالصحراء، بالامتداد، باللانهائيّ. وبالرغم من التماعهما فقد جعلتُ أفكّر بظمئهما، أليست الصحراء ظمأى بأيّة حال؟! وداعبتْ خيالي فكرة أنني ابن منطقة ريفية، حيث تمطر كلّ حينٍ، ورأيتُني مطراً، وكانت فكرة ظمأ عينيها تدعوني أن أنهمر عليها ، ولا أدري ما إذا كانت قد أحسّت هي بما يعتلج وراء جبيني، لكنّها ارتبكت قليلاً، ارتباكاً لم يفقدها ثقتها بنفسها ، ثم أخبرتني أنّها تتابع كتاباتي، وسألتني ما إذا كنت عازما على إخراج روايتي التي سبق أن أعلنت عنها ، والتي تحمل تفاصيل أوجاع وحصار المدينة ، وهل بمقدوري أن أجلبها معي في زيارتي التالية ، وحين أوشكتُ أن أجيبها رأيت صورة زوجتي الحبيبة ” أم زاهر ” أمامي مغضبة ، كانت تحثني وتشير إلى عدم الرد. غادرت حينها الجامعة ، وروحي لا تلبث أن تغادر ، وما إن هبطت درج الكلية ، حتى شعرت بحنقٍ شديدٍ تجاه الكاتب الألماني هيرمن هسّه ، وروايته التي بين يدي ،” تحت العجلة” ، عوضاً عن ذلك انحشرت أنا تحت عجلةٍ لذيذةٍ لا ترحم! . في طريق عودتي أيضاً أخذت أفكّر بمفاتن تلك الفتاة، وأحبالها الموسيقية ، كذلك أخذني التفكير بعيدا بمخاطر إن عدت لقريتي الصغيرة بتلك الفتاة كزوجة ثانية ، هكذا، إلى أن وصلت غرفتي ، حيث أوي، فكان جسدي هو الّذي وصل، أمّا قلبي فقد خلّفته أمام تلك المكتبة. __