بقلم : عيسى قراقع
أحمل جمجمتي وأركض في شوارع غزة ، انا الميت والحي والجنازة ، المشيع والقارئ والمودع والمعزي ، تمكنت من الخروج من تحت أكوام الأنقاض ، كان فوقي جثثا وتحتي جثثا ، القذائف الصهيونية مزقتنا قطعا قطعا فانتشرنا وتناثرنا ، لملمت اقدامي واصابعي وحملت جمجمتي وانطلقت وسط النيران واللحم البشري المشوي ابحث عن مقبرة .
الكل يحمل جمجمته ويركض في الشوارع ، الناس والنباتات والحجارة ، الملابس والقطط والمواشي والطيور والاشجار والاسماك ، النور والظلام يلتحفان في كهف جمجمة ، جماجم في المستشفيات وغرف الإنعاش ، في سيارات الاسعاف ، في حضانات الاطفال ومدارس الأونروا ، في المقابر وثلاجات الموتى ، جماجم في الحدائق وعلى الرمال وفي رسومات الأطفال المقتولين ، جماجم في الأغاني وصوت الرياح الصفراء ، في الأناشيد والحكايات والحارات والجوامع والكنائس، جماجم في البحر والأحلام وفي فروض الصلوات المؤجلة .
مدينة غزة تحولت إلى مدينة الجماجم ، المدينة الجديدة ، الراحلة من الحياة الدنيا إلى الحياة الاخرة ، ومن الشمال الى الجنوب تصطف الجماجم المخلوعة من أجسادها ، تبحث عن بقاياها ، اشكال متنوعة على لوحة فنية عصرية ، ترسمها يد الصاروخ الصهيوني وقنابله المتفجرة .
جمادم تتراكض وتتطاير في غزة ، انه الابداع الصهيوني والأمريكي ، انه الابتكار والمخيلة ، حصد عائلات بأكملها ، إعمار منهوبة ، فصل الرؤوس عن الأجسام ، عيون مقلوعة فوق التراب والحصى والجدران ، هنا تكتب الدولة الصهيونية روايتها فوق أرض الميعاد الفارغة والخالية من سكانها ، مستوطنات كثيرة ستقام فوق لحم معجون بالدم والبارود ، فوق الجلود المحروقة والمسلوخة ، ولاحقا ستقوم الدولة الصهيونية بترميم كل هذه الآثار البشرية ، وتزرع باسم الانسانية والوعد الإلهي أشجار الصنوبر والورد وتعزف الموسيقى .
كتب المؤرخون الاسرائيليون الجدد افكارهم بعد النكبة ، وكتب المستشرقون الغربيون تاريخ ما بعد الاستعمار ، الان سيكتبون أفكارهم بعد غزة ، سينبشون أرشيف الجماجم ويسمعون كلام الموتى ،لكل جمجمة قصة ، سيقترحون ان يبنى معبدا من الجماجم لاجل الذكرى والعبرة ، وربما سيقترحون إجراء مصالحة بين الحياة والموت باقامة دولة فلسطينية من الجماجم والهياكل العظمية ، دولة مجوفة ممزقة ، أجسادها ناقصة ،وسيكتب الفلاسفة سردية الدمار عن الإنسانية الموجودة وراء المنازل والمباني المدمرة ، الأنقاض عارية ومكشوفة ، غرف النوم والمطابخ والرسائل المبعثرة ، الاحلام المتطايرة مع الغبار والنار اللافحة ، فلسفة الوجود لبشر كانوا هنا قبل قليل واختفوا بذكرياتهم وحياتهم النابضة .
احمل جمجمتي واركض في شوارع غزة ، جماجم مشوية ذات ألوان مبهرة ، جماجم مكسرة ومحفورة ومهشمة من العظم إلى العظم حتى الذاكرة ، جماجم ذات ألوان متنوعة ، جمجمة صغيرة لطفل لا زال يحمل قلما وطبشورة ، جمجمة لرضيع يحمل قنينة حليب يطير مع سريره يبحث عن ثدي أمه المقتولة ، جماجم الموتى المنعوفين في القبور ، الاحياء والاموات يحملون جماجمهم ويركضون بين غارة وغارة، يتبادلون الحديث السريع ، لا جدار يتكئون عليه ولا ملجأ ، حزام ناري يجمعهم مرة اخرى في نفس الدائرة .
غزة معرض جثث حداثيّ بفضل أمريكا والصهيونية المتوحشة ، يكتبون تاريخ الشعب الفلسطيني بفحم الجماجم والابادة الجماعية ، يلتقطون الصور ، هي الحضارة المرصوفة بالموتى ، فالفناء البشري أصبح جزءا من هذه العولمة والامركة والنهضة والثورة التكنولوجية ، دول استعمارية نهضت على أنقاض المقهورين والمدفونين ، ولا بد من نصوص قانونية ، قواعد تشرعن هذا الطوفان من الذبح الآدمي والانحطاط الأخلاقي ، لا بد من لغة غير تقليدية تقدس الموت ، مجلس الأمن لن يدعو الى وقف اطلاق النار ، فموت الفلسطينيين رحمة وليس نقمة ، لا يوجد شيء اسمه الشرعية الدولية ، لا يوجد حق تقرير المصير للشعوب المظلومة ، مصيرها جهنم المستعرة ، وما اجمل الجحيم في قطاع غزة ، ما اجمل الأمم المتحدة تقف قدام المعابر في غزة تستجدي دخول المساعدات الإنسانية ، ما اجمل رائحة السلام الصاعد من مدينة صارت مدخنة .
أحمل جمجمتي واركض في شوارع غزة ، انه كابوس ، اشعر بالجوع وبالعطش ، اهرب عبر الانقاض ، امر عن المساجد والدكاكين والبيوت المدمرة ، صاروخ يبحث عن جمجمتي ، تسقط السماء فوق رأسي ، يلاحقني الصاروخ ولا مكان استند اليه ، حياة بشرية كاملة مبعثرة ، لا احد هنا يطرق الابواب المخلوعة سوى الريح والفاجعة .
احمل جمجمتي واركض في شوارع غزة ، الناس يركضون مذهولون حائرون صامتون ، يحملون نعوشهم فوق رؤوسهم ويركضون ، روائح جثث مرمية في الشوارع وعلى الارصفة ، هواء خانق ، نوافذ مكسرة ، اجساد مهروسة تحت قطع الاسمنت ، دماء في كل مكان ، وسائد وفرش والعاب اطفال ، فساتين البنات ، احذية الاولاد ، أنقاض فوق أنقاض ، الكراسي والكتب والازهار ، صرخات من تحت الركام ، جثث متفسخة ، هكذا هندس الصهاينة والامريكان مساحات الجريمة المنظمة والكارثة .
لا غرابة عندما أطلق الصحفيون الإسرائيليون عام 1984 اسم وثيقة الجماجم او الوثيقة المتفجرة على سجل الذبح والاعدامات والقتل بحق الفلسطينيين ، تشكيل غطاء من الحصانة القانونية والسياسية للقتلة والمجرمين والتستر عليهم ، وقد تضمنت الوثيقة تفاصيل كثيرة عن جرائم الاغتيال والتصفيات وفضائح التعذيب بحق الأسرى وإذلالهم ، ولكن غزة لم تعد مجرد زنزانة ، انها قطعة يابسة متفحمة .
هل تتحول جماجمنا إلى سجاجيد يدوسها العابرون ؟ يملأون الصدع التاريخي بفراغ الأجساد المقتولة ، ينحتون لوحاتهم الجميلة في المعارض في كل عواصم الغرب المتوحش ، يحصدون الجوائز والألقاب ويبهرون المشاهدين ، انظروا أجساد تذوب في الألوان العديدة ، انه جمال الخراب ولغة الموت المثيرة .
هؤلاء المستعمرون الذين جاءوا لاغتيال غزة ، هم أنفسهم الذين بنو أنفاق الموت ومتاحف الموت وسراديب الموت من الجماجم والعظام البشرية التي ما زالت معروضة في المتاحف والساحات والجامعات الأوروبية ، في ألمانيا وبلجيكا وأمريكا والبرتغال وفرنسا وغيرها، إنها ثقافة الموت والاستمتاع بأجساد المقتولين واشباحهم واستخدامها للفرجة ، انه الخيال الاستعماري والانحطاط الاخلاقي والفساد الإنساني لتلك العواصم التي تعتبر نفسها عواصم النور والرومانسية والفن والعشاق والموضة .
احمل جمجمتي واركض في شوارع غزة ، قطع لحم متطايرة ، تتسابق عدسات الكاميرات على تجميعها وتركيبها ، وسوف يزدهر أدب الفاجعة والروايات الكابوسية والسوداوية ، أدب الأنقاض في غزة ، أدب الجماجم المسحوقة ، ادب الموت الجسدي والنفسي والمعنوي ، أدب الدمار والغارات الجوية ، ادب الصمت الموحش ، أدب اخفاء اصوات الضحايا وطحنهم بالقنابل حتى لا يكونوا هنا في الزمان والمكان وفي قاعة المحكمة .
احمل جمجمتي واركض في شوارع غزة
لم يعد الشارع خيمتنا الأخيرة