لطالما توقفنا أمام الكثير من المواقف السلبية أو الملتبسة لوزارة الأوقاف, ولم تكن انطلاقاتنا من رغبة في التهوين من شأن هذه المؤسسات بل أمل في الإصلاح لحاجتنا الماسة إليه, لهذا فنحن اليوم لا نملك أمام قرار شجاع لوزارة الأوقاف سوي التأييد الكامل له والالتفاف من حوله, لأنه يمكن أن يشكل خطوة مهمة علي طريق التغيير وعدم الانصياع لصوت التشدد الذي أودي بالبلاد إلي حافة التطرف وأشاع مناخا من الكراهية والشعور بالغبن بين أطياف شعب واحد.
أعلنت وزارة الأوقاف مؤخرا عن قصر مكبرات الصوت علي الأذان وخطبة الجمعة, مع الاكتفاء بالسماعات الداخلية خلال صلاة التراويح, لافتة إلي أن ما تقتضيه الضرورة من السماعات الخارجية حال عدم اتساع المسجد للمصلين واضطرار بعضهم للصلاة خارجه, سوف يكون علي قدر هذه الضرورة ومن خلال التنسيق والاعتماد المسبق من الإدارات والمديريات والقطاع الديني حتي لا يخرج الأمر عن مقاصده الشرعية.
وهذا قرار جريء بكل المقاييس لأنه يحمل سمات تحضر في ظل واقع منغلق تسيطر عليه الأفكار السلفية التي تركناها ترعي فينا حتي أفسدت حياتنا وشوهت ملامح عقيدتنا ومسخت حقوق المواطنة علي أراضينا. فليس من باب المصادفة أن من يحملون هذه الأفكار وكل من يهادونهم هم أول المعترضين علي ما أعلنته الأوقاف, وقد كشفوا بوضوح علي أنهم مجموعات لا تمتلك سوي منطق من لا منطق له, وحججا لا يروجها إلا الراغبون في السيطرة وهيمنة نمط تفكير أحادي مشوش, وبصرف النظر عما إذا كان متوافقا مع الصالح العام, أم يتقاطع تماما مع كل ما ترتكز عليه ملامح مصريتنا من مقومات.
صحيح أن المؤيدين للقرار قد حصروا دفاعهم عنه في العديد من البرامج التي ظهروا من خلالها, علي راحة المسن والمريض وتهيئة المناخ للطلاب وما إلي ذلك, وكلها أسباب حقيقية لكنها مختزلة تماما, فهناك أيضا الأقباط والأجانب المقيمون علي أراضينا والسياح في حال عودتهم, حتي الرضع والأطفال لا تتناغم تركيبة يومهم ونومهم مع هذه المكبرات.
ولا ندري ماذا سيمس العقيدة من هذا القرار؟ وكيف كان المسلمون يمارسون طقوسهم قبل اختراع مكبرات الصوت؟ ولماذا الإصرار علي الإساءة للعقيدة وتشويهها بإظهارها بمظهر السلطوية التي لا تراعي أي جوانب إنسانية أو حياتية؟ الإجابة علي هذه التساؤلات وغيرها تكمن في جوهر التركيبة الذهنية لأدعياء التدين والمتشدقين بفضائل هم أبعد ما يكونون منها.
بعيدا عن مثل هذا اللغط الذي لا طائل منه, الأهم هو القرار نفسه. فلو كان مجرد ردة فعل أو سبيلا للتهدئة, فعلي الرغم من وجاهته فإنه غير كاف بالمرة. أما إذا ما كان بداية صحوة حقيقية وإرادة صلبة لتمتلك المؤسسات الدينية مقاليد الأمور لإدارة كل الملفات الشائكة بما يتناسب مع الواقع والعصر, فإنها هكذا من دون أدني شك سوف تستعيد دورها ومصداقيتها وثقتنا الكاملة فيها.
أما السادة النواب الذين تابعنا آراء البعض منهم الشاجبة للقرار خوفا علي الروحانيات وحرصا علي تنبيه المسلم لتأدية فروضه, فلن نناقش ما يقولونه لسبب وحيد أنه فيما يبدو يتصورون أنهم نواب الفضيلة وأن دورهم ينحصر في ملاحقة القرارات المنفتحة والدراما التلفزيونية وتأديب الشعب, وكل ما يمكننا أن نقوله هو وجوب ضم تصريحاتهم إلي مثيلاتها.
في النهاية لا نملك سوي توجيه التحية لقرار نتمني أن يكون بداية طريق يعيدنا إلي أنفسنا وأفكارنا وهويتنا, وأن يتبعه عشرات الخطوات التي من شأنها تجسيد مواجهة كبري بين الانغلاق والظلامية وبين الانفتاح والتنوير.