كتب الدكتور سمير محمد ايوب
الاسرة في عالم متغير
أحافير في الحب
… وقبل ايام مع الفجر، وصلتني رسالة وجع، كُتِبت كلماتُها وتداخلت بتأثير دمعٍ أضاف للرسالة حَزَنا وقهرا مُكلّلا بغضبٍ بيِّن. كتبَت تقول في مطلع رسالتها: الريحُ في كلّ جهاتي باردةٌ يا صديقي، والشمسُ لم تَعُد تزورُني إلا لِماما. أعيش أوقاتا صعبة، فمع ساعات الصباح الأوَل قبل أربعين يوما، قفز موتٌ من الموت، وبرفقته استبدادُ القدرِ والكابوس المنتَظَر، وبساديّة أنهى حبُّ الحياةِ عند مَنْ لَمْ تُنهكها الحياة، فارقتْها الروح رغم إرادتها، ما تبقى من حطام جسد رقيق أثقلته الشيخوخةُ وافترشته ثلةٌ من الأمراض استحق رحيلا لا مفر منه، من فوق صهوة الحياة أنزَلَها، رغم أن حبها للحياة لم يكن أقل اتقانا من تصميم الموت على تنفيذ مهمته.
ولكن مع كلّ أوجاع الرحيل، لا زِلتُ لا أعرفُ أيّهما الذي فازَ طيلةَ أكثر من ثمانينَ عاما عاشتها الراحلة، أهو الموتُ أم الحياة؟! جدلُ الظنِّ والأمل يحولُ عادةً دونَ اليقين، فنتغافل عن أننا إليه راجعون.
مهما قيلَ عنِ الموتِ المُستبدِّ مِنْ تَخميناتٍ، فهو لا يُخفي حقيقتة، فلم يكن يوما جمعيةً خيرِيّة ولن يكون، فمِثلْه مُنَفِّذٌ لا يعرف سوى الطاعة المُطلقة. لا يقبل نقاشا ولا عذرا ولا وساطة، لا رجاء ولا بكاء، وما على المُنتَظِر إلا الاجتهاد في الاستعداد للتسليم، دون تعويل على شيءٍ، فدفتر المبررات برفقته مُكتظ بالأسباب.
فورَ الدخول في السأم المُتباطِئ للثمانين حَوْلا، تدفق خليطٌ من الحضور المُكثف حول سريرها. ثلة تلو ثلة من ناسها، بعضهم على ذمة الواجب، وبعضهم على ذمة البر وحواف التراحم. ومع شهقة الروح إنهار كثرة من الصامتين المهتمين قسرا، وغشيتهم نوباتُ بكاءٍ حار، في أعين احمرت حُزْنا وافتقادا، واحتل قلوبا وألسنةً هرجٌ ومرجٌ.
في توالي الليل إتَّصلتُ بِدوري، فاستجابت بصوتٍ مخنوقٍ كالهمس. وظُهرَ اليوم التالي التقينا، كانت شمسُ الظهيرةِ ناعمةً كالحرير، جاءت بفستانٍ قطني أسودٍ فضفاض، وخصلُ شعرٍ مُتمردة تجرب التحرر، أصابعها وعيناها حملت لي الكثير من الرسائل، قبل أن تُسارعَ للقول:
أرى في عَينيكَ فضولا يسألُ عن مُبررات غَضبي. لا أُخفيكَ ولن أتهرب، نعم أنا غاضبةٌ وخائفة. أجيبك لأنك تدرك بانني انسانة تعرف كيف تكتم ومتى، وأعرف قدراتي على تحمل ضغوط التجاوزات. ولكنها زادت وبُولِغَ في ارتكابها، حتى بدأت بعض قدراتي تخونُني، وبتُّ الآن في حيرةٍ حقيقية من أمري. لأبَدِّدَ شيئا من غضبي، دعني يا صديقي أبدأ الحكايةَ من ألِفها كما أظن:
وتابَعَتْ تقولُ والدمع يبلل ذقنها: أعطتها دُنياها أكثر مِما كانت تطلب، ودون مُباهاة أو تمنين، أعطت أُمومَتها فوق ما تُطيق، أتقنت العيش في حياة طبيعية، تجتهد في الاقتراب مِمن بالفطرة السليمة تُشبِهَهُم ويُشبِهونها.
أنت تعرف أنني أفيض بحبِّ جسورٍ لها. أبدعنا في تبادل هذا الحب، ابتكرنا حدَّ التألّق مهارات في تداول ادواره. كانت تطمئن بوجودي وتسكن، تناديني إن غبت، وحين كانت تطنب في النداء، كنتُ أخاف منْ وطأة الخوف
عليها.
على كل حال، وقد توقف البكاء والتأفُّف من مَكْر الموت. بقي صوت الآم حيّا في البال وإن بدا مبحوحا: يا ابنتي لِمَ يتعبُ بعضُ الأبناء منَ السؤال عن والديهم المُتحصنين في صمتٍ حَييٍّ، مُكتفين بِهمهمة لا يشوبها دنَسُ التوجع، احتجاجاعلى ما يجري حولهم من ابتلاءات التَّغيُّب. كنتُ أثق بحبكم جميعا، وإن تفاوتم بالدرجة وبالنوع، لكلٍّ منكم طريقته في التعبير ، بل وحتى في التقنين أو في الاخفاء.
ما يُدهشني يا صديقي ولن أكتمه، هو هذا التغير الذي ألمحه واضحا في تصرفاتهم وهم يعاودون الحياة. البِرُّ أو ما تبقى منه، يعيش على فائض أوقاتهم أو اهتماماتهم. أعترف بأن بعض ما أراه لم يفاجئني كثيرا، خاصة أنه عفوي بلا تعمد، ولكني بت اشتاق لتلك الوجوه المكلّلة بذاك الحزن النبيل.
لا أخفيك، إني أفتقدها كل يوم، اخاطبها وانا في غاية الخجل من أسئلتها، فهي الشاهد الحاضر المؤهل للمحاسبة، ها نحن في غيابها أيتام مبعثرين في واقع مثقل بالتشوهات، كانت الجامع للمتفرقة صفوفهم والحاضن للمؤلفة قلوبهم.وبتنا الان خائفين تائهين كأيدي سبأ.
وقبل أن أختم أحب أن أقول: بأني نشأت على قاعدة كلنا بارون، وبأنني في هذا الحب ككل الأبناء، مُسيَّرة بالفطرة لا مُخيّرة. وما لا تأت به الفطرة كما أحب، يأتي به الواجب كما يليق بالوالدية وبالبنوة أن تكون.
ونظرَتْ في عينيَّ وهي تُنهي كلامها بصمت متساءل. فسارعتُ أقول وأنا أمسك بأطراف أصابعها: تتبدى لك مواقع الحياة مثقلة بأُناسٍ لهم مُسميات وألقاب شتى، ولا تدرين إن كنتِ في سيرك أو في سوق عكاظ ، ولكن لتفهمي بعض خبايا المعلن أوالمسكوت عنه من أقوال ومن مشاعر،عليك اتقان مهارات عدة، تمكنك من قراءة لغة الاجساد قبل ابجديات الشفاه.
وصفك لبعض معالم الواقع العام مؤلم، وهو ليس وصفا لوهم أو توقع، ففي الساحات الخلفية لبعض الأسر المعاصرة، تتفاقم صور من مثل هذا الوجع. ولو تتبصرين فيه أكثر، ستعلمين أن كثرة من الأبناء والأرحام لا يقاربون حضن الوالدية إلا بقهر المناسبات أو صدفةٍ عابرة، يَتخفَّفون باسم الانشغال وتلاهي الحياة، وطوراً باسم الظروف، ناهيك عمن لا يرحلون كيرا من اقسام الشرطة والمحاكم والمقابر والمصحات وبيوت المسنين.
ولكن، هل كل هذا الذي يصيب مكارم الفطرة السوية عبثاً؟ قيل فيه الكثير ويبقى ما يتوجب إضافته، عن متغيرات قسرية باتت تفرض نفسها على جلِّ النظم الاجتماعية، وبِتُّ في ظلها أخشى أن لا تصمد طويلا كثير من مؤسسات اسرية رخوة، ومعها العديد من المنظومات القيمية اليومية، وأن نرى على انقاضها اسرا تتفسخ لتجمعات فرعية، لا تعتمد في بنائها على التعاضد بل على مصالح نفعية آنية سريعة التبدل.
المآسي في هذا العالم سريع التغير متناسلة، وما يطفو فوق السطح كاف لكشف الاهتراء المتنامي لبعض بنى الأسرة ووظائفها. وسط كل هذا الركام أسألك سيدتي، أين هو العم والعمة، وأين هو الخال والجد والجدة، ناهيكِ عن الجار وسابع جار! كثيرا من الحاضر يُنْكِرُهُم، وأثق أن كثيرَ المستقبل سيَجْهلهم.
لا تعجبي من بعض ما تشهدين، بعضه اعتل و تراجع حتى صار غريبا، لا يستحق الندم ولا يحتمل العتاب. سيدتي واقعنا ركام وأمامنا دخان، كوني سخية في الجرأة والغضب، فأين هي الأسرة الممتدة خزان الأمن والأمان؟! كانت قاطرة التماسك في هذا العالم المتغير، ولكنها خسرت كلَّ الفرص، لا يمكن لها أن تنجو، سقطت بالضربة القاضية للتكنولوجيا ومنظومات قيمها، فلا صوت يعلو اليوم على الفردية والأنانية.
وأختم موجوعا، أنَّ مِنْ نِعَم الله علينا، أننا برفقة والدينا لم نكن على شرفة الحياة سياحا متفرجين أو متأملين، بل برفقتهم أمضينا أحلى أيام العمر وأنبلها.