الطيور مصدرًا للإبداع الفني /بقلم/ د. علي الدرورة ( السعودية)

أبدع الخالق سبحانه وتعالى في صنيع خلقه، فالأسماك والفراشات والطيور والزهور ذات وغيرها من المخلوقات هي أشكال تبهر العقل، فالله جلّ وعلا بديع السماوات والأرض، وأيّ إبداع فيهما يرتقي إلى الكمال ولا نقص فيه مطلقًا، جلّت قدرة الخالق المبدع.

والإنسان أدرك بفطرته هذا البعد الجمالي الرباني إذ عشقه وصار يحاكيه في مجمل حياته، فالمعماري أبدع في الزليج والقاشاني والزخارف على أشكالها في أنساق فنية تبهر العقل.

وكذلك التشكيلي هو الآخر استخدم الفنون البصرية ووظفها برسم تلك المخلوقات الجميلة في لوحات فنية رائعة الجمال وجعلها خالدة عبر الزمن.

كثير من الطيور في العالم لا نراها وذلك تبعًا لاختلاف البيئات التي نعيش فيها، فالذي يعيش في بيئة بحرية يرى طيورًا بحرية، وكذلك إنسان الصحاري والإنسان الذي يعيش في الجبال أو وسط الغابات فهم يرون طيورًا لبيئتهم، فلكلّ بيئة نوعية من الطيور التي تلائمها وللعيش فيها.

إنّ التناسق في الألوان بقدرة الله سبحانه في بديع خلقه لتلك الطيور يجعل الإنسان أمام لوحة ربانية تجعله يسبّح الله.

والطيور وظفها الإنسان فنيًّا منذ قديم الزمان إذ نقشها على الصخور وفي الكهوف، وفي الفنّ التشكيلي المعاصر نجد أغلب الفنانين أبدعوا في رسم الطيور وخاصة الببغاء بفصائله العديدة وبصفة تلك الطيور متعددة الألوان فهي تعبّر عن الفرح والبهجة أكثر من غيرها من الطيور، إلى جانب ألفته للإنسان أكثر من غيره من الطيور الأخرى.

حتى نجد بعض الفصائل المتشابهة نجدها مختلفة في الألوان والأصوات والبيئة، وهو دليل آخر على إبداع الباري عزّ وجلّ وخاصة في الزرازير والزبرا والحسون والصرد.

أمّا عن ألوان الريش واختلاف تواجده في مكان دون آخر في جسم الطائر فهو حكمة إلهية منذ الأزل، حيث يعتبر الرّيش أحد أكثر خصائص الطيور المتنوعة بشكل واضح التي يمكن ملاحظتها بالعين المجردة في أيّ طائر في الكون مهما اختلفت بيئته هو وأسلافه في العصور الخوالي.

وتتكون الأنماط التي نراها في ريش الطيور من مجموعات معقدة من الترقطات، والمقاسات، والخطوط، والبقع وقوة الألوان والمتدرج منها واختلاف ذلك بين الذكر والأنثى من نفس الفصيلة.

ولعلّ أهم أكثر الطيور تعقيدًا هو العقعق والطاؤوس الملون وليس الأبيض، ويُعدّ ريشهما الأغلى والأجمل والأفضل والأكثر استحبابًا، ولكن كيف تُصنع هذه الألوان والأنماط؟

إنّه الإلهام الإلهي المودع في هذه المخلوقات الجميلة. إنَّ سبب امتلاك الطيور للريش الزاهي و المُلون بألوان تدريجية هو أمر جليّ لنا، فبالنسبة للعديد من الطيور، قد يقلّل تلوّن ريشها من قدرة الحيوانات المفترسة وهو ما يعرف بالتمويه على تتبعها حيث يساعدها ذلك على التخفي ضمن محيطها، من المفترسات وخاصة في الصحراء بصفتها أراضي مكشوفة للصقور والنسور والباز و العقبان وغيرها من الجوارح، أو قد يزيد تلوّن ريش الطيور من جاذبيتها في نظر شركائها من خلال مساعدتها في تمييز هذه الطيور عن نظرائها.

إننا ندرك جيدًا هذه الجوانب الفنية ألقًا وإبداعًا، إلا أننا كنّا نقف أمام أحجية أكبر، وهي الآلية التي تُصنع فيها هذه الأنماط على المستوى الإبداعي.

إنّ الله سبحانه وتعالى لم يضع تلك الألوان عبثًا في كلّ الكائنات وليس فقط في الطيور؛ لأنّ ذلك ينطبق على الحشرات والأسماك وباقي المخلوقات.

وقد درس الدكتور إسماعيل غالفان Ismael Galván مع فريق من الباحثين الخبراء عن تلوّن ريش الطيور ولمعرفة أنواع أسرار الألوان وكيفية تركيب الأصبغة الموجودة في الأنماط المعقدة منها.

وكيف يحدث التلوّن الجميل للريش بشكل أساسي دون أن يدرك الطائر نفسه لهذا الأمر، واتضح أنه من نوعين من الأصبغة، وهي الميلانينات melanins التي تنتج مجموعة ألوان هي الأسود، والرمادي، والبني، والبرتقالي، والكاروتينات carotenoids التي تستعملها تركيبات متخصصة من الريش لتوليد الألوان الأكثر إبهارًا وسطوعًا.

واتضح أنّ الطيور لا تستطيع أن تنتج الكاروتينات بمفردها، ولذلك حتى تحصل الطيور على ريش زاهي الألوان يجب عليها أن تستهلك غذاءً يحتوي على الكاروتينات، ومن ثم تنتشر هذه الأصبغة عبر مجرى الدم وجريبات الريشة.

لا تملك أجسام الطيور تحكمًا خلويًا مباشرًا بتركيب وتركيز الكاروتينات، ولا تمتلك أيضًا تحكمًا بالبنية الخاصة للريش التي تتفاعل مع الكاروتينات المستهلكة بآلية لا تنظمها الخلايا المتخصصة.

وهنا تبرز عملية التلون التي هي أساسًا فطرة مزروعة في الطائر نفسه حتى يتناول أنواعًا محددة من الطعام وبذلك تكون عاملاً مساعدًا في دفع الأصباغ إلى الريش.

أما بالنسبة للميلانينات، فتُصنَع ضمن أجسام الطيور عن طريق خلايا خاصة تدعى “الخلايا الميلانية melanocytes، التي تعمل مع جريبات الريشة لتتحكم بشكل دقيق بعملية التصبغ.

ورغم أنّ الدراسات ركزت بشكل متكرر على دور الكاروتينات في تلوين ريش الطيور، إلا أنّ الدكتور غالفان وفريقه هم أوّل من جربوا فيما إذا كانت الميلانينات في الواقع العنصرَ الصباغيَّ الوحيد التي تملك أجسام الطيور تحكمًا مباشرًا به على المستوى الخلوي.

ويقول غالفان: “مع أننا نعلم مسبقًا أنّ الأصباغ والتراكيب المختلفة تنتج أنواعًا مختلفة من الألوان في الريش، فقد فحصنا مظهر الريشة لكلّ أصناف الطيور الموجودة وحددنا فيما إذا كانت بقع الألوان التي تحتويها أنتجتها الميلانينات أو عناصر صباغيّة أخرى.

كما حدّدنا الطيور التي تملك أنماط ريش يمكن اعتبارها معقدة، وهي- وفقًا لتعريفنا- الأنماط المتشكلة من اتحاد لونين قابلين للتمييز أو أكثر، والتي تظهر بشكل غير منقطع ضمن الريشة أكثر من مرتين.

وهناك نظرية أخرى قام بها عالم طيور وهو كيفس وقد أجرى تجربته على زرازير الزبرا الصغيرة زهي في الأساس طيور غابات وهي ذات ألوان مختلفة وبالمئات.

ودراسة كيفس هي عند غالفان، وهي كيف يرى الطائر ريشه ويقارنه مع فصائله، بمعنى كيف يطبق الطائر المثل القائل:
(إنّ الطيور على أشكالها تقع)
بلا شك أنّ كيفس درس جيّدًا رؤيا الطيور بالرغم أنّ العرب عرفت السّر بدليل المثل آنف الذكر.

إذًا الريش معروف ولكن بطريقة مختلفة كما رأينا عند كيفس وهو يرى: أنّ الريش المتشكل من مادة الكيراتين إذا ما أنهكته الظروف وجعلته باليًا فإنه يجدد نفسه بانتظام، ففي كلّ مرة يستعيد الطير فيها ريشه الملون كما كان أول مرة؛ لأنّ الريش يستمرّ في النمو حتى يصل إلى كامل طوله اللازم والمناسب لجسد ذلك الطير واللون المميز أيضًا والنمط كذلك.

تبقى النظريات العلمية في فنّ صباغة الريش هي أولاً وأخيراً من إبداع الخالق جلّ وعلا، وما النظريات والفرضيات إلا مجرّد دراسات علمية كما يدرس التشكيليون تناسق الألوان في المخلوقات ومنها الطيور موضع هذه الدراسة.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!