ينظر الإله إيل إلى الأرض التي اختطها ، وأعطى لها بشرها ودوابها ونباتاتها ، واغتبط إذ رأى الناس راضين بما قسمه لهم ، خاصة ذاك الفلسطيني الذي يعبّر عن شكره الخالص بالصلوات القلبية الخاشعة ، في المعابد الجليلة التي ابتناها في الربوع المرتفعة ، وزينها بالتماثيل التي تخيلها له ، ويركع له على عتباتها ، وينحر تحت أقدامها ذبائحه ، ويقدم قرابينه ونذره الخالصة المخلصة.
وينظر الإله إيل أيضا إلى ذاك العابر من فيافي الأرض ، لا يستقر في بقعة _ ولو آنس إليه أهلها _ فلعله لا يحسن مساكنة البشر ، لم يألفه أحد ولم يألف إلى أحد ،لم يعبد ما يعبدون ولم يعبدوا ما يعبد ، لعله لم يدرك يقينا ما يبتغيه من هذه الحياة ، أو لم يقوَ على التصريح بما يضمر من رغبات .
ها هو الذي ما زال يعبر الأرض سائحا أو مطرودا من بقعة إلى أخرى ، يمضي في تجوال لا يعرف منتهاه ، لا يدري أحد إن دخل فلسطين صدفة أم عن سابق تخطيط ، فهو يدخل على وجل منه أو تردد ، حتى آنس من الفلسطيني لطفا لم يعهده في غيره ، إذ دعاه بالعابر ، وبالعبراني ، فاغتبط ، وقد راق له هذا الاسم بعد أن كان مشردا نكرة ، أهداه اسما وقد يعني هذا عربونا للتواصل والمحبة والترحيب ، في أرض تفيض لبنا وعسلا , ولا يتخاصم على نعيمها المبذول اثنان .
جلس العبراني في بقعة، لم يعرف الفلسطيني معنى لهذا الجلوس، كأنَّه يدور مفتشا عن شيء، فقال له
_ ماذا تفعل هنا ؟ كأنك تبحث عن شيء ؟
_ كأنك لا تعرف عمَّ أبحث …!
شعر الفلسطيني بأنه يهان في ذكائه ، فقال العبراني بعد أن لمس حيـرته :
_ أتذكر حينما تخاصمنا هنا ، ودلقت قرباني على هذا التراب ؟
لم تكن ذاكرته متوقدة في هذا المساء الخريفي ، كي يفهم ما يقوله هذا العبراني، لكنه أردف :
– حينما يسقيك الخمار كأسا ، ألا تصبح مدينا له ؟
ومع ذلك لم يفهم شيئا ، لكنه قال ليدفع عن نفسه تهمة الغباء .
_ نعم …!
_ هذه الأرض شربت خمرتي ، وهي مدينة لي بإناء من الخمر .
وجدها الفلسطيني نكتة غير مضحكة ، فقال بابتسامة باهتة .
_ إذن خذ من الأرض ثمن إناء خمرك إن استطعت .
_ ألا تعلم أن الذي لا يسدد دينه يوخذ عبدا .
_ وماذا تعني ؟
_ سآخذها سدادا لديني …!
تفاجأ الفلسطيني بهذا القانون الذي لم يسمعه قبل فقال :
_ من جاء بهذا القانون ؟
_ إنه من عند الآلهة .
استغرب أن تكون الآلهة قد استنت مثل هذا القانون المضحك ، لعله من آلهة مزيفة .
وقف الفلسطيني مذهولا يناجي الإله إيل : { إيل … أيها الإله العظيم ، ماذا أفعل مع هذا الذي يخضعني لقوانين آلهة لا أعرفها ، ليجتزئ من أرضي ما ليس له … ؟
اهتزت الأرض من تحت قدميه ، فارتجف قلبه ، وسمع الإله إيل من خلف الجبل يقول :
_{ يأتي لك بالمقدس من القول حينما لا يقوى على إقناعك ، ولكن لا تقبل ما لا يقبله عقلك ، }
_ وكيف أجعله يعرف زيف أقواله ؟
_ هي معركتك منذ اليوم مع الزيف والباطل.