تفكيك الخرافة/بقلم:فابيولا بدوي

الحلقة الأولى: خرافة النخبة – حين يصنع العقل أوهامه الخاصة

في ثقافتنا الشعبية، حين نُشير إلى الخرافة، نتخيل مشعوذًا، امرأة ترتجف خوفًا من الحسد، شيخًا يبيع الحجاب، أو طقوسًا غريبة تُمارس في الظل.
لكن الخرافة ليست حكرًا على البسطاء.
بل الأخطر من ذلك: أن النخبة نفسها قد تعيش داخل خرافة مريحة، أكثر أناقة، لكنها لا تقل خطرًا.
فإذا كانت الخرافة الشعبية تُولد من جهل أو خوف، فخرافة النخبة تولد من وهم الامتياز، ووهم المعرفة، ووهم التغيير.

من هم “النخبة” أصلًا؟
النخبة هم من يظنون أنهم يعرفون أكثر، ويظنون أن مهمتهم “تنوير” الآخرين، أو “قيادتهم”، أو “تغيير واقعهم”.
قد يكون النخبوي مثقفًا، أكاديميًا، فنانًا، ناشطًا، أو صاحب سلطة فكرية.
لكن خلف هذه الألقاب، يختبئ سؤال مزعج: هل يعيش النخبوي داخل وهم “التفوق الرمزي”؟ هل يرى نفسه مرشدًا لا شريكًا؟
هل يستخدم المفاهيم ليُخفي بها هشاشته، بدل أن يكشف بها الواقع؟

ما هي خرافة النخبة؟
إنها الإيمان الساذج بأن:
– “الناس لا يفهمون، ونحن نفهم”
– “نحن نملك الوعي، وهم يعيشون في الجهل”
– “إذا قرأوا ما نكتب، سيتغيّر كل شيء”
هذه خرافة أنيقة… لكنها خرافة.
لأنها تُبسّط الواقع، وتُخفي التعقيد، وتحوّل التنوير إلى استعلاء ناعم مغلف بلغة مثقفة.

النخبة وخرافة “امتلاك الحقيقة”
الخطاب النخبوي أحيانًا لا يختلف عن خطاب الداعية أو الزعيم:
– كلاهما يؤمن أن “الناس لا تفهم مصلحتها”
– كلاهما يرى نفسه في الأعلى، والبقية في الأسفل
– كلاهما يبشّر، لا يُشارك
هذا التحوّل من النقد إلى “الوعظ الثقافي” جعل الكثير من النخبة جزءًا من المشكلة لا مفتاحًا للحل.
فهم لا يُربكون الواقع، بل يُجمّلونه بلغة جديدة، دون أن يقتربوا من الناس أو ينصتوا لهم.

متى تصبح الثقافة نفسها خرافة؟
ببساطة حين تتحوّل الثقافة إلى “ديكور فكري” لا يمسّ الواقع، بل ينزوي عنه.
حين تُصبح المفاهيم مجرد كلمات محفوظة: “الحداثة”، “التنوير”، “التغيير”، دون أن تُخاض تجريبيًا.
بل الأخطر، أن البعض من النخبة يُصدّر فكرة أن كل من لا يفكر كما يفكر، فهو جزء من الجهل، أو “قطيع”.
هكذا تُخلق طبقة ثقافية ترى ذاتها منيرة، وتمنع نفسها من النقد، وتعيش داخل وهم التفوق الفكري.

لنأخذ نموذج الكاتب الذي يسخر من المجتمع لأنه يؤمن بالحسد، بينما هو في ذات الوقت يؤمن بأن “الوعي الطبقي” وحده كفيل بتحرير الإنسان.
هذا الكاتب لا يختلف كثيرًا عن من يعتقد أن الملَك سيحلّ المشكلة.
كلاهما يؤمن بقوة خارجة عن الفرد – أحدهما روحية، والآخر نظرية – لكنه يسكن ذات البنية: الإيمان بأن الناس لا يملكون حريتهم إلا حين تُمنح لهم من الأعلى
بالتأكيد:
ليس المطلوب هدم النخبة، بل تحريرها من أوهامها.
أن يفهم النخبوي أنه:
– لا يملك الحقيقة، بل جزء منها
– ليس في الأعلى، بل في داخل المعركة
– لا يُضيء للناس، بل يُضيء معهم
وأنه لا ثقافة تنفع إن لم تُمارس، ولا وعي يُورث إن لم يُخض بالأسئلة، ولا نخبة تُحترم إن لم تكن قادرة على النقد الذاتي أولًا.
باختصار:
إذا أردنا أن نُفكك الخرافة، علينا أن نبدأ من حيث لا يتوقع أحد: من داخلنا نحن.
من خرافات النخبة، من وهم المعرفة، من فكرة أننا “أقل خرافية من غيرنا”.
لأن أكثر الخرافات فتكًا… هي تلك التي تتحدث بلغة المنطق، وتعيش في رأس مَن يظن نفسه خارج الخرافة.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

تعليق واحد

  1. يعيش المثقفون دائما في أوهام وخرافات لا يجرؤ الكثيرون على كشفها أو فضحها.. أو حتى القاء الضوء عليها.
    وحينما قرأت ما كتبته الشاعرة الكاتبة فابيولا بدوي.. أدركت أنها تملك الجسارة والموضوعية والنزاهة في خوض هذه المساحة الشائكة.. ولابد ان لديها خطة وزوايا ورؤى تجعلها تقبل على طرحها في مقالاتها القادمة
    وأنا أثق في أنها تستطيع ذلك لأنها لا تخشى أحدا.. ولأنها تملك الإرادة والحرية والأسلوب الواقعي الذي يفند الباطل.. ويحق الحق.. ويكشف المستور.. دون حسابات ودون انتماءات تحول بينها وبين حرية التعبير.
    ننتظر المزيد من الرؤى وإسقاط الأقنعه في عالم يحتاج إلى ثورة ثقافية نابضة بالقوة والقدرة على التغيير. .
    الشاعر أحمد سويلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!