الحلقة (4):
خرافة التنوير – هل يضيء النخبة واقعًا لا يعرفونه؟
في كل زمن يظهر من يدّعي أنه حامل النور، ويقدّم نفسه ككاشف للحقائق، مخلّص من ظلمات العقول، باعث لحياة العقل في أمة أُنهكت بالخرافة. في مجتمعاتنا، هذا المُخلِّص يُسمى: “المثقف المتنوّر”. لكن مهلاً… هل حقًا يُنير الطريق؟ أم يُعمينا بوهجٍ مزيّف؟
خرافة التنوير هي إحدى أخطر خرافات النخبة، لأنها ترتدي لباس العقل، وتتكلم باسم الوعي، وتُخفي في عمقها استعلاءً ناعمًا ومصالح مغلّفة بالمبادئ. التنوير، كما يُسوَّق اليوم، ليس إلا عرضًا مسرحيًا طويلًا لممثلي النخبة أمام جمهور لا يُشارك في النص، بل يُطلب منه فقط التصفيق أو الصمت.
التنوير… حين يصبح امتيازًا لا مسؤولية:
المفارقة أن من يدّعون التنوير لا يرون أنفسهم جزءًا من المشكلة. يظنون أن التخلّف في الشارع، وأن الجهل في الريف، وأن الخوف في البيوت الفقيرة. أما هم، فهم العقل النيّر الذي ينتظر لحظة الاستماع. لكن الواقع أن هذا العقل نفسه مشبع بالتصورات الطبقية، والأحكام الجاهزة، والبعد الكامل عن تفاصيل الحياة اليومية. التنوير، كما يمارسونه، ليس مشروعًا تحرريًا… بل برج عاجي مشيّد بكلمات كبيرة لا تصمد أمام اختبار الواقع.
لماذا لا يُغيّر التنوير شيئًا؟
ببساطة، لأن النخبة لا تخاطب الواقع، بل صورتها عن الواقع. تكتب عن الجهل، لكنها لا تطرق بابه. تتحدث عن النساء، لكنها لا تجلس معهن أو تستمع إليهن. تحلل الدين، دون أن تفهم ما يعنيه فعليًا في حياة الملايين. تمارس النقد كنوع من التطهير الذاتي، لا كأداة لفهم معقّد لواقع مركب.
فالتنوير الذي لا يخوض في الطين، ولا يحتك بالغضب، ولا يسكن في صدور المهمشين… يبقى خطابًا خادعًا، مُطمئنًا، فقط لا غير.
التنوير التلفزيوني وخداع الوهج:
هل سمعنا يومًا من أحدهم صوتًا يرتجف لأنه قال الحقيقة؟ هل فقد أحدهم منبرًا لأنه اختار الناس على السوق؟
التنوير الإعلامي لا يخاطر. هو صناعة، جزء من الديكور الثقافي لأي نظام. المطلوب أن تكون متزنًا، لبقًا، ناقدًا دون أن تكون ثائرًا وحرًا بمعنى أدق دون أن تكون خطيرًا. هكذا يصبح التنوير عرضًا تلفزيونيًا… لا يبقى فيه سوى ديكور “العقلانية” المعلّبة.
من الشاشة إلى الزيف: التنوير الرقمي
في زمن الصورة، أصبح التنظير سهلًا. إذ يكفي أن تمتلك لغة محكمة، وأن تُتقن اقتباس هيمنجواي أو بودريار، وأن تنشر ذلك بصيغة منشور أنيق.
بينما التنوير ليس استعراضًا لغويًا. إنه قدرة على الغوص في التعقيد، على مخاطبة القبح، على مواجهة الخوف. من يسطّح المفاهيم لأجل تفاعل رقمي لا يصنع وعيًا، بل يسوّق وهماً نخبويًا يحجب السؤال الأهم: هل نعرف حقًا عمّ نتحدث؟
الأهم من هم الناس الذين تريد النخبة تنويرهم؟
هل هم القرويون؟ العمال؟ الأمهات؟ الشباب التائه؟ المهمشون؟… لا أحد يعرف، لأن النخبة لا تذهب إليهم. تتحدث عنهم من مسافة، كأنهم مادة تحليل لا بشر. التنوير الحقيقي لا يحدث إلا عندما نتخلّى عن هذه المسافة، عندما نكسر المرآة التي نحب أن نرى فيها أنفسنا كمنقذين، ونسأل ببساطة وصدق: ما الذي لا نفهمه؟
الجُبن المقدّس:
ربما أقسى ما يمكن أن نواجهه في خرافة التنوير هو الجبن. جبن النخبة في تحدي السائد. جبنها في قول ما لا يُقال. جبنها في تجاوز الخطوط الحمراء التي ترسمها السلطة أو الجماعة أو الجمهور. لهذا لم نعد نثق. لأننا نعرف أنهم – مهما صرخوا – لن يخسروا شيئًا. سيظلون في أماكنهم. بألقابهم. بضوءهم المسرحي. أما نحن، فنفهم الثمن، ونعرف من يدفعه فعلًا.
خرافة التنوير… خيانة الواقع:
أن تتحدث عن وعي لا تملكه، وعن ناس لا تعرفهم، وعن مشاكل لم تعشها، فهذا ليس تنويرًا… بل خيانة ناعمة للواقع. الواقع لا يحتاج من يمجّده ولا من يسبه، بل من يراه كما هو. وحين ترى الواقع، لن تكون متفرجًا. ستكون غاضبًا، مرتبكًا، حائرًا… وهذا هو أول الطريق نحو تنوير حقيقي، لا تنوير مزيّف يُرضي الجميع ولا يغيّر شيئًا.
إذا أردنا أن نُنير الطريق، علينا أولًا أن نُطفئ الأضواء المسرحية. أن نصمت طويلًا، أن نسمع، أن نقترب، أن نخاطر. أن نقول لأنفسنا: نحن لسنا أنبياء العقل، ولسنا قادة الوعي. نحن مجرد أفراد نحاول فهم ما يحدث. فقط حينها، يمكن أن يبدأ التنوير الحقيقي… لا بوصفه خطابًا نخبويًا، بل بوصفه مواجهة مؤلمة مع الذات والمجتمع والسلطة. حينها يمكننا القول: هذه ليست خرافة، بل بداية نجاة.