كتب الدكتور سمير محمد ايوب
بعد أن سمَحَت خليَّة إدارة أزمة الكورونا في الاردن ، للمصارف خدمة الجمهور لساعات يوميا ، كنتُ مع الظهرالامس ، بعد سير على الأقدام لربع ساعة ، واحدا في صف طويل من المراجعين ، في الشارع خارج البنك الذي أتعامل معه .
قبل أن يحين دوري في الدخول لصرف شيك أحمله . جاءَتْ وحَيَّتْ وقالَت : وأنا أناور لإيقاف سيارتي أمام مستودع الأدوية المُلاصق للبنك حيث اعمل ، لمَحْتُكَ تَتَوَكَّأُ مُتثاقلا على عصاك . أشفقتُ عليك من انتظار طويل . فقررتُ قبل أن أدلفَ إلى مكتبي ، أن أدعوك لتناول قهوتنا سوية . وأضافت وهي تبتسم ، لا تخش ضياع دورك . سأكلف زميلا بقضاء حاجتك في البنك .
رافقتها ممتنا ، فهي زوجة صديق بعمرأولادي . صيدلانية متخرجة من الهند . تعمل وهي في منتصف الأربعين من عمرها ، مديرةً للتزويد والامداد ، ومشرفةً على وحدة ضبط الجودة في مستودع الأدوية والمصنع التابع له .
بعد أن جلَسَتْ قبالتي في صالون مكتبها . اوصت احد مساعديها انجاز غرضي في البنك . ونحن نحتسي القهوة ، وبحكم صداقتي ووساطتي الدائمة بينها وبين زوجها ، المغترب في بلاد الحجاز ، سألتها عنه وعن أحوالهما . كمن لسعتها أفعى أم جرس ، قالت بعد أنْ وضعت فنجالها جانبا : صاحبُك قد شطَّبْ يا شيخنا ، لم يبق عنده طاقه ولا حيل ، تصحَّرَ وتشقَّق ، لقد أفلسَ في كلِّ شيء .
فعاجلتها وأنا ألتقط فنجال قهوتي بالقول وأنا أعلم بحكم صداقتي لهما ووسيط بينهما ، بعض المسكوت عنه في طيات قذائفها الكلامية : حتى وَلَوْ يا دكتوره !!!! فكلُّ ما قُلتِ ولَمْ تقولي ، لا يعني أنه قد صارَ سيِّئا ، حتى وإنْ صار مريضا . علَّمَتني الحياة ، إنِ أرتطمت بشخص كان لطيفا صبورا ، وبات فجأة عصبيا ضيق الخلق ، أو انسحابيا في الكثير من النقاشات ، أو حتى من بعض علاقات تربطه بمن حوله أو بشريكته ، أن لا أصرخ في وجهه ولا حتى همسا : ما بك قد تغيرت !!! فمثل هذا ، ليس من حقي ولا مبررا ، لأنه حتى وإن صح موجع ، يصب زيتا على نارٍ مُسْتَفَزَّة.
وعلَّمَتني الحياة ، أنّ بعضَ الرتابة حين يُعلنُ عن وجوده ، ليس من الضروري أن يكون تنكرا لشريك ولا للمشترك معه . بل لما يكون قد وصل اليه حالهم مع قوس قزح المشترك ، وما أفضت إليه محاولاتهم لتحريره ، من قبضة القيود والروتين ، المُفضي بالحتم إلى الملل . بعض المَلل يا سيدتي ، محاولاتٌ فاشلةٌ لصد بعض ما يستجد من حواجز ، وبحثٌ عن تجديد يكسر بعض المألوف في مستنقع الواجب وخدمة العلم ، التي يموت في لججها ألفُ حُبٍّ . وتنطفي في دهاليزها ألف شهية وشهية .
وعلمتني الحياة أيضا ، أن الشراكة المشبعة بالحب أو بالمصلحة ، ليست إيقافا لِلَحظة البدء ، لتبقى كما بدأت إلى الابد . إنها نهرٌ جارٍ ، من نبع دافق وسواقي نقية ، تغذي مجرى حياة نشطة ، الثابت الوحيد والقانون المطلق فيها ، حركة دؤوبة التَّحوُّل ، لا تستأذن أحدا في شيء .
يُبْتلى الشركاء بهذه المشكلة ، ذات المسربين المتعاكسين ، ليسير كل منهما في واحدة منها ، لاستحالة السير في الطريقين في آن واحد ، إما طمأنينة راكدة ، أو قلق ناضج . وهذا هو لب ما تُعيِّري به صديقي . ضَنكُ عيشٍ بعد بحبوحة ، ومرض السكر بعد عافية وشباب متجدد ، غزاه بقسوة مع الديون ، وامتص الطازج من حيويته .
طأطأت رأسَها ، أناخته بين كفيها ، صَمَتُّ تَعمُّدا واحتراما لوجعها، تركتها ترتوي بالبكاء ، حتى رفعت رأسها وهي تسأل : ما العمل ، فأنا ما زلت أحبه وأريد أن أكمل حياتي معه ؟
قلت بشي من الاشفاق والفرح : أتمنى عليك يا سيدتي ، أنْ تعلمي أن الذي يعيش حياة مُتحركة ، ليس كَمَنْ يعيش في حبٍّ راكدٍ مُستقر . وأعلمي أنَّ الحب المُتحركَ لا يقدِّمُ طمانينةً ولا راحةَ بالٍ ، كالتي يحصل عليها من هو في علاقة راكدة . الحب الثابت قد يحمي من فقر العزوبية ، ولكنه يمنع الشراكة من الغنى المتنوع . في الحب المتحرك مشكلة كل يوم ، لا تنتهي واحدة حتى تلد أخرى . أصحابه في ركض مُتصل ، وحركة لا تهدأ ليلَ نَهار . يترتطمون ويهمهمون بشكاوى غامضة ، ولكنهم مستمرون . أما في الراكد من الحب ، فلا داع للهلع .
ليس من حق الناضجين الأوفياء ، إذا ما غزاهم مللٌ أو داهمتهم نِصالُ الحياة ، التغيُّرَ والتَّذمُّر أو تكرارَ الشكوى . دون إنكار لحقهم بالتوجع والتشاكي ، إنْ رأوا أنَّ أمكنتهم قد تغيَّرَت في قلوب من يحبون أو من يعرفون . ولكن ، قبل هذا وذاك ، من حقهم عليكم ، أن تتعرفوا على ما بات يحيط بهم من ظروف ، أفْرَغَت بطارياتهم من الصبر ، وغيَّرَتهم بالنتيجة . فهم على الأغلب الأعم ، لم يصلوا إلى هذه المرحلة ، إلا بعد أن اسْتُنفِذَت طاقاتهم على الصبر . فتعبوا وتشبَّعوا مللا .
لاحظتُ شبح ابتسامةٍ حزينة مُتردِّدَةٍ تغزوا مَبْسمَها ، فأكملتْ ناصِحا : صبراً جميلا راضِيا يا دكتورة , فلَعلَّها ولَعلَّها ولعلَّ منْ خلقَ الصبرَ يحلَّها .
الاردن – 16/4/2020