كتب الدكتور سمير محمد ايوب
كنتُ بحاجة لشريك بسيط يشعرني بالأمن وبالأمان، لستُ نقّاقة ولا شكّاكة ولا خنّاقة، ولستُ من رعايا ولا من أتباع سفاهات التملك البشع. في حينها، كانت الايام والليالي تمضي في روتين حياتي متشابهة، مجرد واجب مُمل. أبتسم أحيانا حد القهقهة، واحيانا تختنق الحياة بدواخلي.
كان من أتوقع ان يرزقني الله به، مجرد فكرة لا بياضها مكتمل ولا سوادها. فكرةٌ رماديةٌ عالقةٌ في منتصف مداركي. أوهمتُ نفسي بوجوده فعجزت عن اقتلاعه. رفضت ان لا اشتاق له. نسجت حضوره بخيالي ، وأاسرفت في التعلق بذاك الوهم، بكل أمزجته الجميلة وغيرها.
في لحظة ما، جاء القلب بمن ظننته بالشبيه، ممتلئا بالأضرار مثلي وبالإصرار. تركنا العالم جانبا، وحاولنا ترميم بعضا بهدوء وتفاهم. أتى فاكتفيت به. فأنا ساعتها لم أكن اريد ان يحبني كل الرجال، بل ان يحبني هو. ولم يعد في القلب متسع لآخرين. من حينها، تغيرت رواية حياتي . بات له في القلب ما لا يجوز لغيره.رأى فِيَّ قيمة انسانية حقيقية، فأعطى بلا مقابل قيمة حقيقية لحياتي. لم نلتفت لما لم يكن موجودا في حينها. سكنتُه بتعصب، وبتطرف تشبعت به واكتفت مشاعري وحاجاتي. لا يهمني كم اخسر معه ولا كيف.
اتفقنا على أن الخيبة ليست دائما من صديقٍ أَو من حبيب، قد تكون خيبتك من نفسك. واتفقنا على ان الشتاء وحده ليس موسم البرد، وان برد الروح ابشع من برد الجسد. وأن القلوب إن جَفَتْ صَدِأتْ وقَسَتْ. وتوافقنا على ان العطش ليس للماء فقط، وتوافقنا مع من قال ليت كل عطش يروية قدح ماء. وختمنا تفاهماتنا بأن قيمة الشريك عند شريكه، تقاس بالمدة التي يتركه فيها غاضبا او حزينا. وان من لا يأتي به شوقه بعد الليلة الاولى للفراق، لن يأتي به ولو بعد الف ليلة اخرى.
بعدها، اقتنيت بين دفاتري دفترا، اسميته باسمه “ السَّلَفِيُّ في الحب “. حرصت كلما أساء لقلبي ان امزق ورقة من أوراقه الكثيرة، واكتب في اخرى “ أحبه “. ومع كل كلمة “ احبه “ كنت اكتبها، أظن أن كبريائي كان يتلاشى. ومع كل صفحة امزقها كان كبريائي يتلاشى منهزما أيضا. كنت مصممة حين انتهي من تمزيق اوراق دفتري، أن أشتري دفترا جديدا آخر، لأحبه من جديد.
ولكنه كما وسوست لي شياطيني وأبالستي، بعد ان ظن أنني لم أعد كافية، يبدو انه قد ندم، وانه ليس في المكان الانسب له، وجد الهجر خيرا له، فهجر دون ان يرف لك جفن. افلت يدا كانت بشغف تمسك بيديه، تَنَكَّرَ لنا وكأننا ما احببنا بعضا، يوما ما ولا دهرا ما. قسى في لحظة ضعف واهمة، بدد كبرياء فطرتنا التي امضينا معا سنين طوال، في تشذيبها وفي تهذيبها، حتى استقامت. تخلّى، هجِر، وغادر.
وجدت نفسي يا شيخي في مكان لم أعُدْ أعرفه. بعد ان تنكَّرِ لنا ( له ولي )، لم يعد قلبي ينقبض لرحيل احد، القيت في جوف حوت يونس ما في جعبتي من احلام. بشاعة طريقة رحيله، كانت ابشع وأوجع من رحيله. تركني اشك بوجود خيرين بين الناس، جعلني اتوجس من خذلان غدر آخر.
لأني كنت أعلم، أن البدايات لا تعطي الحقيقة، وأن النهايات هي من تفعل، لم يضايقني ما فعله بي، فحياتي مليئة بالخيبات وبالخذلان. خذلني البعض من موقع خوفي، اما هو يا للغرابة، فقد جاء خذلانه من موضع امني وأماني. فمما كسر روحي، انني كنت قد ظهرت له بوجهي الآخر، الذي لا يعرفه الا هو، أظهرت له ضعفي وحزني، وطفولتي التي لم اتجاوزها. أظهرت له كل شيء، لأني شعرت بأنه مختلف جدا. ساعتها شيء جميل بداخلي، أوحى لي فيما أوحى، انه لن يُفلِتَ يدي أبدا.
لم أسأله عن سبب رحيله، في البدء قادني حسن ظني للاعتقاد بانه سيبتعد قليلا، فالظاهرأاني ظلمته بحسن ظني، بدا لي انه كان منذ زمن بعيد، يجهز اعذاره قبل رحيله فعليا، دون ان يتذكراننا ذات يوم بعيد، كنا قد اتفقنا على ان لا نفترق الا بالموت، ها هو الموت يا شيخنا، قد تأخر وافترقنا.
وهنا ناولتها علبة المناديل الورقية لتكفكف دموعها، وأشعلتُ لها لفافةً وعاوَدْتُ ملء فنجالها بالقهوة التي
تعشقها، وانا احاول تخطي مقتضيات الانصات المتبصر، قلتُ:
كاذبٌ يا سيدتي، من يقول ان الحياة تتوقف على شخص واحد. حتى لو كان غيابه ينسينا الكثير من ملذات الحياة. حتى لو كانت طعناته كطعنة بروتس لقيصر او أشد، أو كانت مجرد خدوش عابرة. أعلمُ يا سيدتي كم هي مؤلمة الطعنات، خاصة إذا ما جاءت بسكاكين، تحملها ايدي من كنا نتمنى ان يبقوا هم الأحبة. واشفق على الأنفس الأبية وأحسدها، لانها لا تملك شيئا من رفاهية البوح أوالتوجع، او الشكوى او الانهيار.
أغمَضَتْ عينيها، وبعصبية أمسكت خصلة من شعرها قد تدلت فوق جينها بفعل نسائم وادي شعيب حيث كنا عصرا نجلس في الهواء الطلق، وقالت: سامحني ان اقاطعك لاني احب ان اضيف لك، بأني انا ابنة الستين من عمري، قبل شهر قد تجاوزت حدود المنطق، وتخطيت حدود الكبرياء، وباصابع متعبة كتبت له:أعترف أنني بدونك لست على ما يرام. وبعد ان ظننت انني بت اعرفك جيدا، ما تحب وما تكره، كيف تبتسم ومتى تستيقظ، احلامك وما يقلقك، طننت نفسي كافية لك، فقررت ان اكون سكنا لك وطمأنينة، وان تكون منجم فرجي ورضاي، إكتشفت رحيلك المتسلل كورق الخريف.
حتى لو كانت كل الطرق التي سلكتها لنسيانك، تؤدي اليك، إطمئن ولا تقلق، فأنا لن اعود اليك مرة اخرى. خيبتي بك، كافية لابتعد عنك كثيرا. لن اعاتبك فربما اصبحت سعيدا بدوني، ولكن ليتك عدت بي الى حيث كنا حين تواعدنا على ان لا نفترق الا بالموت، ها هو الموت ايها السَّلَفيُّ في مشاعرك، قد تأخروافترقنا، تبّاَ لكل ما او من فرَّق بيننا ايها الشقي !!!
تمضي ايامي بغزارة بدونك، باتت كل الاشياء في غيابك تنتظر، بعد ان كانت في حضورك قابلة للتأجيل. ليتني استطيع حذف اساءتك بسهولة، لكن قسوتك المجنونة ملتصقة بجدران القلب. بت أعرف أنك لن تأتي. حيرة إنتظارك الصامت جنون بواح، سأعتزل اكثر واتعلم الصمت مثلك ، وان ابقي لساني بذريعة الوقار والكبرياء بخيلا، يُبقي ما اشعر به طي الكتمان، واترك الالم يغيرني في ما تبقى لي من عمر، وان ازدد من تعلم القسوة مثلك، ولكني أعدك وانا ادمنها، ان لا أمارسها بقلب ميت، مثل قلبك.
أنتصبَتْ واقفة مثقلة بالحُزْن، تابعت شكواها وهي تلوح متجهة الى سيارتها، قل لصاحبك العزيز، يا شيخنا
ما عليك ايها السلفي الشقي، قلبها العاجزعن العيش بدونك، يسألك: أولم يخبرك احد يوما ما، ان مغاور الخذلان مخيفة ؟! وأنها أمكنة لا شيء ينتهي عندها، وبالقطع لا شيء يبدأ لاحقا منها!!!!!