وأنا اقرأ كتاب دروس من القرآن للإمام الشيخ محمد عبده ، استوقفتني فقرة في الصفحة 50 في إشارة من المؤلف الى أن القرآن أشار الى أن أنواع الهداية التي وهبها الله تعالى للإنسان مذكورة في آيات عديدة منها ، قوله تعالى” وهديناه النجدين” في إشارة الى طريق الخير والشر ، متضمنة هداية الحواس الظاهرة والباطنة، وكذلك هداية العقل وهداية الدين، كذلك قوله تعالى “وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى” ، أي اختيارهم لطريق الشر والذي جاء التعبير فيه بكلمتي : فاستحبوا العمى.
صراحة، موضوع الهداية موضوع مهم ويحتاج الى توضيح الملامح في بداية الاعتراف بقيمة هذا الأمر ،ألا وهو الهداية ، أي اتباع طريق الله، والاستقامة في السلوك والاحتراز من الوقوع في الزلل وفي كل ما من شأنه أن يزيد من كثرة الذنوب، التي لا شك هي من يضبب الرغبة في أن يهتدي الانسان الى الطريق الصواب، وأحيانا هذه الرغبة يضللها الشيطان أو تعطلها وتكبحها النفس الأمارة بالسوء، ولا شك أن التفكير في مسار الهداية في حد ذاته هو هدي من الله ، مصداقا لقوله تعالى : ‘انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ..” سورة القصص ، الآية 56، في إشارة أن الأنبياء ليسوا هم من ينقذون الناس من النار، وانما هذا بأمر الله وحده، ومهمة العلماء والدعاة هو الدعوة الى الله وتحبيب الناس الى دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو الطريق الصحيح الذي حتى ولو تخللته صعاب ووحشة وعزلة بسبب الفتن والمشاكل وقصور عقول الناس عن فهم الدين فهما صحيحا، الا أن طريق الحق هو طريق الهداية، هو الطريق الذي يحبه الله، ولذلك حُفت الجنة بالمكاره وحُفت النار بالملذات.
وعليه، ليس حكرا على المسلم أن يهتدي وان زلت قدمه عن طريق الصواب، فالهداية في عفويتها رغبة وقناعة وإرادة في تغيير ما هو قائم في الانسان ولو لم يكن مسلما، اذ يكفي أنه لديه رغبة في معرفة خالق الكون وبالتالي عرف الله فأيقنت روحه بوحدانيته وخشعت جوارجه لتفرده بملكوت الكون كله وما فيه من مخلوقات وسماوات وكواكب وأراض وبحار ومحيطات ، هي موجودات تدفع للتساؤل عن دقة هذا الابداع الرباني وجمال ما يحيط بالإنسان من نظام كوني متوازن ، وهو ما يجعل من عفوية الهداية نور يهتدي به من دخل الإسلام عن حب ورضى وندم على ما فاته وهو بعيد عن معرفة قيمة وعظمة هذا الدين .
وفي تحديد الهدف من الهداية ، هو معرفة الله بالدرجة الأولى حق المعرفة مصداقا لقوله تعالى ” هو الله الذي لا اله الا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يصفون” الآية 23 من سورة الحشر، ما يعني أن عفوية الهداية تزداد سيرورة نحو تثبيت الاقبال على الله كلما شعر المتهافت بالراحة والسكينة والطمأنينة وهو يقرأ القرآن ويفهم معانيه من خلال التفسير ، فيقارن نفسه قبل أن يقف وقفة تفكير معمق ورغبة أكيدة في أن يتغير، أو بالأحرى في أن يغير منوال حياته ونظامه الذي تعود عليه ولم يكن يشعر فيه بتلك الكينونة التي تشعره أنه لم يُخلق عبثا، وأن المسلم على الخصوص كلما شعر أن ايمانه نقص أو أن فتورا ما أصابه ، فلن يجد ضالته في تجديد ايمانه الا الوصال مع الله سبحانه وتعالى في صدق وإخلاص وحب وتذلل له عز وجل بالدعاء والالحاح فيه وعدم اليأس أو القنوط وقت المحن والشدائد، والعفوية هي ذاك الصوت الخافت الذي يسطع فجأة فيعلن رغبة صاحبه في أن يعرف ذاته ويعرف مساره الى أين المقصد وهل هو فعلا هو الطريق الصحيح؟.
ان أمواج الابتلاءات والمحن التي تذود وتتعاقب على الممتحن أو المبتلى، ما هي الا وقفات وعبر واستنتاجات لخلاصة دروس يتعلم منها الانسان المسلم وحتى غير المسلم الذي يرغب في أن يعرف حقيقة عظمة الله عز وجل، هو ما يجعله ينأى بنفسه فيفكر ويحلل ويناقش مع العلماء والدعاء قضايا مصيرية وقضايا وجودية ، فيسترسل في أن يزداد فهما أكثر لحقيقة أن الخلود في الدنيا ليس بدائم وأن فيه حساب وجزاء ، ومن هذه الحقيقة ينطلق استعدادا من صحوة روحية في قلبه وعقله في أن يستدرك ما فات ، ولن يجد الطريق الأمثل لذلك سوى العودة الى الله.
كما أن من هم على أهبة الدخول للإسلام أشخاص لم يعرفوا عن ادلين الإسلامي الا القليل ، لربما هي الفاصلة التي اختزلت التعبير عن أن الانسان اليقظ روحيا دائما ما يستفيد من تجاربه ومن دروس الحياة، وفي عفوية الهداية إشارة أو لقطة يقظة أنه يشعر بضرورة أن يتغير للأفضل ، وقد لا تكون المعالم واضحة في البداية لكنها تتضح مع بذل الجهد والاقتراب من الضالة المنشودة بما يتوافق والرغبة في الشعور بالقيمة الانسانية التي أودعها الله في خلقه ، لتبقى مستويات اليقظة والانتباه الى طريق الهداية بمثابة مؤشر نحو التغيير الإيجابي الذي يصاحبه دائما الاستفادة مما يحيط بالإنسان من ظروف وأحداث ومواقف ومؤثرات خارجية ،وهذا ما يجعله في حركة تفكير دائم ، وهو ما يمكن مقارنته مما ذكره الامام الشيخ محمد عبده في كتابة السابق الذكر حين ذكر في عبارة تلخص عفوية الهداية في معناه الذي نريد ايصاله بوضوح :
وقد قالوا : أن المراد بالصراط المستقيم الدين أو الحق أو العدل والحدود، ونحن نقول: انه جملة ما يوصلنا الى سعادتي الدنيا والآخرة من عقائد وآداب وأحكام وتعاليم…( دروس من القرآن، ص 51).