عُدْتَ يايومَ مَوْلِديْ / بقلم : م . قاسم الحوشان عياش درعا / سوريا

خاص لصحيفة آفاق حرة الثقافية

عُدْتَ يايومَ مَوْلِديْ
عدتَ ياأيها الشقي

في مثل هذا اليوم من كل عام 20/4/1951

في مثل هذا اليوم تفضحُ الريحُ ماخبأتهُ كثبانُ الرمالْ . تسعةٌ وستونَ عاماً ، غادرني الشتاء ولم يبقَ منهُ الا ذكراهُ واقبلَ فصلُ الصيفِ وبدأت لعبةُ الأرضِ والرمالِ تعيدُ سيرتها الاولى ، وبدأتْ مراكبُ فصولَ عمري تغادرُ الموانئَ التي رستْ عليها أحلامي متجهةً للمنافي التي أصبحتْ أهلاً
لاحتوائي . فحكايتي أوجاعٌ أكبر من جروحِ الوطنْ الكبير على كثرةِ تعدُّداتها . كانت عيونُ أحلامي تغطي عينَ الشمسْ فقد وُلَدتُ من رحمِ المعاناةِ فهي بحاجةٍ لحلمٍ رباني يعيدها الى الأرض
لتنصفها ، لقد احترقتْ في مواقدِ السنين ، وماتتْ في وحشةِ الفصولْ ، وعلى ارصفةِ سنين عمري .
في مثلِ هذا اليوم وَلَدَتْنِي أُمّي . خرجتُ منَ السَّكِينةِ لأرتمي بين أيدي هذا الوجود المملوءِ بالضوضاءْ . قدْ سرتُ تسعةً وستين مرةً معَ الأرضِ والقمرِ حولَ الشمسِ والكواكبْ وسرتُ في هذا الكونِ الفسيحْ اللامتناهي ، وبعدَ ساعاتٍ قليلةٍ ستبدأُ منْ جديدٍ خطوتها الاولى في شوطها السبعينْ .
يالرحلة العمر ؟!
ولكن:
هي تلك نفسي تهمسُ الآن وتُعيدُ أشياءَ ذلك الكون الذي حللتُ ضيفاً عليه يعيدني مثلما تُعيدُ الكهوفُ صَدَى أمواجِ البحر الى أسماعنا .
منذ تسعةٍ وستينَ عاماً خَطَّتْنِي يَدُ الله كَلِمةً في كتابِ هذا العالم الغريبِ الهائل. وهاأنذا كلمةٌ مبهمة، ملتَبِسَةُ المعاني، تَرْمُزُ تارَةً إلى لا شيءٍ وتارةً أُخرى إلى كلِّ الأشياءَ .
. في هذا اليوم تنتصبُ أمامي معاني حياتي الغابرة، كأنَّها مرآةُ جيبٍ صغيرةٍ أنظرُ فيها طويلاً فلا أَرَى سِوَى شحوب السّنين، وملامحِ الآمالِ والأحلامِ والأمانيَّ المتجعِّدة كملامِحِ شيوخِ حيِّناْ
الذي هدَّهم كَدُّ الفلاحةِ التقليديةِ وسوءُ التغذيه .
ثم أغمض عيني وأنظر ثانية في تلك المرآة فلاَ أرى غيرَ وجهي الذي أتعبتهُ هذهِ الرحلةِ القصيرةِ الطويلهِ فأخاطبهُ :
قدَّمتُ عمري للأحلامِ قربانا
لاخنتُ عهداً ولا خادعتُ انسانا
والآن أجري وراءَ العمرِ منتظراً
مالا يجيءُ..كأنَّ العمرَ ماكانا
لماذاأحبَبْتُ الحرّيَّة أكثرَ من كلِّ شيء !؟
لأنَّني وجدتُهَا فتاةً أضناها الانفرادُ ، وأَنْحَلَهَا الاعتزالْ، حتى أصبحتْ خيالاً شَفَّافًا يَمُرُّ بين المنازِلِ، ويَقِفُ في منعَطَفَاتِ الشَّوارع، وينادي عابِرِي الطريقْ ، فلا يسمعونَ ولا يلتفتونْ .
في التسعة والستين عاماً أحببتُ السعادة… لكنني لمْ أجدها ، ولما انفَرَدْتُ بطلبها سمعتُ نفسي تهمسُ في أذني قائلةً :
السعادةُ صَبِيَّةٌ تولَدُ وتحيا في أعماقِ القلبِ ولنْ تجيءَ إليهِ من محيطهِ .
ياألله ويالقبيَ المريض وياللسعادةِ التي أطمحُ إليها انها بمتناول يدي لكنها بعيدةً بعد أفلاكِ السماءِ التي مررتُ بها .
أحببتُ الناسَ نعمْ أحببتهم كثيرًا فوجدتهم :
واحدٌ يلعنُ الحياةَ لأنهُ يجري وراءَ لقمةِ العيش وهي تجري بسرعةِ الضوءِ أمامهُ ، وواحد يباركها لأنهُ وُلدَ وبيدهِ ملعقةٌ من ذهبْ ، وواحدٌ بينَ بينٍ يتأملُ هذه الحياةَ بتفكرٍ وتمعنْ متأملاً في خلقِ الله . فقد أحببتُ الأولَ لتعاستهِ ، والثاني لسماحتهِ وبعضُ كرمهِ ، والثالثُ لِمَداركِهِ .
واليوم أقفُ فوقَ سطحِ العمارةِ التي أَسكُنُها في حيِّ الأطباءِ في إربد أتخيل حيينا في درعا وأنظرُ مُتَأَمِّلاً ماوراءَ حارتي، فاستدعيتُ هدهدَ سيدنا سليمانْ (السيد قوقل )ليحضرَ بسرعةِ البرقِ بيتي وحارتي لأرى البرِّيَّةَ والسدَّ الركاميَّ القديمْ الجاثم كجبلٍ هرمٍ الذي يحتجزُ تنين ماء ضخم ابتلع العديد من أبناء حينا وهم في زهرةِ شبابهم بالرغم من انه تنين عجوز يصغرني بعشرين عاماً نعم أتأمل بكلِّ ما في هذا الافقِ من الجمالِ الساحرْ ثمَّ أنظرُ وأنظُرْ متخيلاً وأتأمَّل بجميعِ هذهِ التفصيلاتِ الطبيعيةِ التي أمتعنا اللهُ بها… فأنسى التسعةَ والستينَ عاماً ويظهرُ لي كِيَانِي ومحيطي بكلِّ ما أخفيتهُ وأُعلنتهُ كَذَرَّةٍ من تنهُّدَةِ طفلةٍ ترتجفُ في خلاءِ يومِ عاصفْ بأخبار الموتِ القادمِ معَ الكورونا .
أصدقائي الاعزاء :
من خلالِ رحلتي وجدتُ أنَّ هذا الكونَ سرمديِّ العُلُوّ، أبديّ الحدودْ. لكني أشعرُ بكيانِ هذهِ الذَّرّةِ، هذه النَّفْسُ ، هذه الذاتَ التي أدعوها أنا… وبصوتٍ مُتَصَاعِدٍ أصرخْ :
سلامٌ لكِ أيتها الحياة المقبلة والمتبقيه أي كان طعمها .
سلامٌ أيها النهار الغامِرُ بنورِكَ ظلمَةَ الأرض.
سلامٌ أيها الصيف المذيعُ بقدومكَ لهيبَ الشمس.
سلامٌ أيتها الروحُ الضابطَةُ أعنّةَ الحياةِ والمحجوبةُُ عنها بِنِقَابِ الموتْ ، القادم معَ فايروسْ الكورونا .
أصدقائي :
إذْ أذكرُ ما انصرمَ من أيامي ، أجدني عاجزاً عن وصفِِ حياتي المليئةِ بالمآسي و الأحزانْ ، و أنا فردٌ من أفرادِ هذهِ الإنسانيةِ المعذبه ، هذهِ المآسي و الأحزانْ التي أثقلتْ كاهلي لكنها صقلتْ روحي ، و أحسُّ اليومَ وقدْ دخلتُ في السبعينِ أني لمْ أزددْ عنْ هذهِ الدنيا وفهمَ قانونها إلاَّ بعداً ،ذلك إنْ كانَ لها قانونٌ تسيرُ عليهِ غير قانونِ خالقِها ، و أشعرُ فوقَ هذا و ذاكَ أنني كلما ازددتُ بالحياةِ علماً ففي رحلتي فيها أشعرُ أني ازددتُ بها ضياعاً وجهلاً .
اعزائي أصدقائي :
مرَّتِ السنونُ على قلبي فتكدستْ فيهِ الآلامُ وحشرَتْ حشراً ، فقلبي المريضِ الذي يتكىءُ على قلبهِ الثاني (الشبكه والعباره التي هي توأم فؤادي منذ 2004) قلبيَ التوأم الذي اصبحَ مريضاً هو الآخرُ من تكالبِ الزمنِ عليهِ حتى أصدأهُ ، وكما يقولُ المثل المصري (رَدواْ المتعوسْ على خايبْ الرجاْ) ، هذا القلب الذي يصلُ نحيبهُ ونشحهُ ليُسْمِعَ كل أطرافي ويرويها بنزفٍ كلونِ المائعِ الناريِّ الصادرِ من بركانٍ هائجٍ فلتَ منْ عقالهِ . فلولا هذهِ الدموع لَماْ سَمِعتُمْ ياأصدقائي بوحي .
اصدقائي :
مرتْ السنونُ على عقلي فأخذَ يتغيرُ و يتفتقُ عن فلسفاتٍ جديدةٍ غير تلك التي اعتدتُ عليها بادي الرأي .
و مرَّتْ السنون على عينيَّ فقَصُرَتا عن تمييزِ ماحولهما إلا بنظارةٍ مقربةٍ ومكبره لكي تدركَ هذا الحولُ وتعرفُ صديقها من عدوِّها ،وبتُّ كالخنساءالتي غشىَّ قلبها الحزن :
قذىً بعينيكِ أمْ بالعينِ عُوَّارُ .
امْ ذرَّفتْ اذْخلتْ منْ اهلهَا الدَّارُ
في يومٍ كهذا قبل تسعةٍ وستينَ عاماً استقبلتني وجوهٌ فرحةٌ ضاحكةْ ، و كنتُ وحديَ الباكي بينهمْ، كأنني أُعَرِّفُهُمْ بحقيقتي و حقيقةِ ما أنا قادمٌ لألقاهْ
هذه الوجوهُ لمْ يبقَ منها إلا القليلْ ، لكنَّ أكثرُ تلكَ الوجوهَ بِشْراً وانبساطاً يومها كانتْ هيَ الأولى’غياباَ و مغادرةً لعالمي كانَ والديْ رحمهُ اللهُ غادرنا بعدَ عامينِ ونيِّفٍ من ولادتي
غيَّبَهُ رصاصُ الغدرِ في مظاهرةٍ سلميةٍ على جسرِ الأحزانِ في درعا ، هكذا أصبحَ اسمهُ بعدَ أنْ أزهقَ رصاصُ الموتِ عليهُ أرواحاً كثيرةً من شبابنا عام 2011 وكأنَّ التاريخَ يعيدُ نفسهُ منْ جديدْ ، وعانتْ والدتي رحمها اللهُ الأمرَّينِ حتى صرتُ ماصرتُ اليهِ الآنْ .
أصدقائي الأعزاء :
قد يتساءلُ احدكمْ اينَ حياتكَ العاطفية بين هذا الركامِ المشابهِ لركامِ درعا وركامِ مدننا السوريةِ الآن :
نعمْ :
من بين هذهِ الاوجاع انبثقتْ حياتي العاطفيَّةِ
فالمعاناةُ يخرجُ من رحمها عاطفةٌ جياشه كما هي معاناةُ الادباءُ منذُ الأزلْ فلم تعاندْ الحياةُ مشاعري فقدْ رسمنا معاً أنا وشريكتي في البدايات ِقصوراً رمليلةً لحياتنا الماديةِ اقتلعتها عواصف عاتيه لم تكنْ بالحسبانْ ولمْ تكنْ هذهِ القصورُجديرةٌ بالمقاومه . لكنها علمتنا انا وهيَ أنَّ المشاركةَ مهمةٌ جداً للنفسِ الانسانيةِ لأنها تمنحُ الشخصَينِ المتحابينِ شعوراً بالراحةِ والقوةِ .
وبوجودِ هذا الشريك الداعم نعرفُ تماماً كيفَ نُطَيِّبُ أوجاعنا بكلماتٍ تواسي قلوبنا الحزينه وروحنا المنكسره .
فرغم المعاناةِ انجبنا ثلاثةَ أبناءٍ وخمسُ بناتٍ
ولنا منهم خمسةَ أحفادٍ وستتةَ عشرَ سبطاً وأنا بين ورقتي وقلمي دخلت علي مكالمةٌ تبشرني بسطٍ جديدٍ قادمْ والحبلُ على الجرار والحمد لله .
أصدقائي :
في يومٍ كهذا قبل تسعة وستين عاماً و أنا أُعَدُّ نَسَمةً من تعدادِ هذا العالم الفسيحْ ، فالجميعُ يراني بعينهِ وأنا أرى الجميعَ بعينيَّ فيقالُ فيَّ ما أعلمْ وما لا أعلمْ .
وصدى’ صوتُ عقلي يُسْمِعَني عبارةً اعتدتُّ عليها في رحلةِ أيامِ سنينيَ الموحلةِ :
(لِيُسامِحَ اللهُ الجميعْ )
ولا أقولُ بعد أن أثقلتُ عليكم ياأصدقائي :
ماقالهُ الشاعر كامل الشناوي :
وكأنه ينطق بلسانِ حالي وحالَ أمثالي !؟
عُدتَ يا يوم مولدي
عُدتَ يا أيها الشقي
الصِّبا ضاع من يدي
و غزا الشيبُ مفرقي
ليتَ يا يومَ مولدي
كنتَ يوما بلا غدِ
ليتَ أني من الأزلْ
لمْ أعشْ هذه الحياة
عشتُ فيها و لم أزلْ
جاهلاً أنها حياة
ليتَ أني من الأزلْ
كنتُ روحاً و لمْ أزلْ
أنا عمرٌ بلا شبابْ
و حياةٌ بلا ربيعْ
أشتري الحبَّ بالعذابْ
أشتري فمنْ يبيع؟
أنا وهمٌ .. أنا سرابْ
(اسقاط على ذاتي)
طبتم وطابت ايامكم وكل أوقاتكم أصدقائي

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!