لصحيفة آفاق حرة:
فضيلة التأمل في حفظ التوازن
بقلم: إيناس نازلي الجباخنجي
في عالمنا الصاخب بضجيج حشود البشر في حركتها المتماوجة دون انقطاع في الشوارع والميادين والأزقة والطرقات وفي خضم حياتنا الملوثة بضوضاء ورشات الحرفيين وهدير محركات السيارات القديمة يصبح التمتع بنعيم الهدوء غاية يفتقدها المرء لأنها صعبة المنال حتي يكاد يعتبر السعي لتحقيقها محاولة بائسة ، يائسة لأنها مستحيلة التحقيق حتى في الساعات المتأخرة من الليل. البحث عن الهدوء يعني مباشرة محاولة السعي للصمت والسكون التام ، ولن يتحقق الصمت إلا من خلال التعود على ممارسة العزلة والاكتفاء بهواية الإنصات إلى الصمت !إنها مهارة لا تتسنى للكثيرين لأنها ترتبط أساسا بالقدرة على التأمل.
إذن الأمور مترابطة بشكل عجيب والاستغراق فيها يستهلك خاصية قدرة العقل على جرد الحقائق وامتصاص الظواهر وتفسيرها، وحينها سيفقد المرء أهم شروط البحث عن الصمت لأن الاستسلام للأثر الهائل الذي تعكسه الرعاية الاجتماعية لحياة الآخرين أو استغلال الفرصة للمشاركة في الاحتفال بالأشياء المدهشة التي يمر بها الأشخاص لجعل العالم مكانا أفضل للحياة ستجعل المرء منقسم على ذاته إلى حد الدمار!! ذلك لأن الحديث عن الامكانات العقلية لشخص ما مرادف للحديث عن عدة صفات ومزايا تتعلق بكل ما له علاقة بالقوة الذهنية والجبروت في التعامل والصلابة في الموقف، وهو ما يعني أننا أصبحنا بعيدين عن منطقة الأمان التي توفر عوامل تهدئة النفوس وأجواء الميل إلى التصالح ومحبة التسامح وظروف تولد الرغبة في ترتيب أساليب التفكير وتبسيطها، إي أننا سنكون منهمكين في تلمس السبيل للمحافظة على التوازن الذهني والاستقرار النفسي.
إن الرغبة في امتلاك التوازن الداخلي والمحافظة عليه توجب ممارسة العزلة بعيدا عن مظاهر الجنون ومصادر الضوضاء وعدم كثرة الحركة لضمان تحقيق السكون التام والاستعداد لعدم التفكير والتزام الصمت من أجل بلوغ حالة الهدوء العقلي والاسترخاء العاطفي والطمأنينة الروحية، وكلها ظروف يحتاجها المرء للوصول إلى حلول مبتكرة وحقيقية لمشاكل الحياة. الانصات إلى الصمت هو إنصات إلى الصوت الصغير الساكن داخل النفس وهو قد يدوم لفترات راحة متقطعة خلال الحديث مع الآخرين، ويحدث تلقائيا إبطاء في الكلام وإضفاء الكثير من المودة والصدق المتبادل فتخف حدة المؤثرات الخارجية وتزول مكامن إثارة الأشياء المزعجة ، كما سيعد الصمت في حد ذاته هو الرد المناسب والمفيد في حالات الغضب. الكثيرون يتمتعون بفوائد التأمل عندما يتعلمون السكون من واقع الطبيعة التي تبتسم لكل من يدخلها حيث تكون المغازلة بلغة الصورة ، وحيث لا مجال إلا للجمال الرباني الذي يمنح الفؤاد والبصر السكينة والبهجة وحيث تتحدث فيها الرموز لغة تشكيلية مليئة بالإيحاءات التي تحمل الأبصار إلى حركية تلتقي فيها الأشكال بسحر الألوان يترجم معانيها كل ناظر إليها على طريقته ، حينها سيشعرون بالهدوء الداخلي بمجرد رؤية السلوك الفطري الوديع لبعض الحيوانات الأليفة وستسكن نفوسهم مع سكون الريح وأوراق الأشجار، فتراهم يتجاوبون لحديث الطبيعة إليهم يتلقون وحيها رغبة في السلام والسكون والهدوء فيتعمق وعيهم ويتحررون من الخوف وتتحرر قدراتهم الإبداعية الداخلية بسموهم الروحي.
قد يجد البعض صعوبة في تحويل الفكرة إلى رأي، ويعجزون عن ترجمة الرأي إلى سلوك، وهؤلاء يصمون آذانهم عن سماع صوت الحياة في صورتها الإنسانية، ومثلهم كمثل من يعتقد أن السعادة في العالم مستحيلة وأن هناك فقط لحظات يستريح فيها الحزن، والصمت بالنسبة لهم ينبغي أن يكون كالماء الذي يستقبل ما يلقى فيه دون أن يحفل به وهو يعود بعد لحظات إلى هدوئه ، وهذه خاصية الامتصاص للعقل حيث يجب الإبطاء في سرعة الفعل ورد الفعل والانصات جيدا لهمس النفس وتعلم ما الذي نريده بالضبط والهدف الذي نسعى وراءه ، فكون المرء عجولا ومتسرعا فهذا يعني أن أفكاره في اندفاع شديد وتصرفاته تعكس أفكاره حتى يشك المرء إن كان يعيش في حالة سلام ورضا، أو إن كان عقله مشغولا بما يفعل أم أنه يفكر فيما بعد!
من الضروري أن يدرب الإنسان نفسه على ” الابتعاد” عن مصادر الإزعاج والاضطراب متى شعر بأول إشارات الضغط أو القلق، ومن المفيد أن يقوم عن طريق التأمل والملاحظة باكتشاف ما هي هذه الإشارات، وأن يضع قيمة لتغيير عقله فيتذكر مثلا كم من مرة غير رأيه في شخص قابله للمرة الأولى فكان رأيه سلبيا ثم بدأ يتغير للأفضل بعد تكرار لقاؤهما، وهذا لن يحدث بدون البحث في دخيلة نفسه عن ” مشورة شخصية ” تكون كفيلة بتحقيق الاستقرار الداخلي ألا وهي الصمت الضروري لهدوء العقل، ومن هنا تبرز فضيلة التأمل في حفظ التوازن.