أثناء مطالعاتي لمذكرات “وينستون تشرشل” لفت انتباهي جملة كتبها في هذه المذكرات، حيث أراد تنبيه شعبه بعدما خسر انتخابات مجلس العموم البريطاني، حيث حذر شعبه أن لا يضيع في فوضى الأهداف، فمثل هذا الضياع قد ينعكس سلباً على مجمل ما حققته بريطانيا خلال خمس سنوات متواصلة من الحرب ضد ألمانيا و إيطاليا و اليابان ( الحرب العالمية الثانية) .
فحقيقة ان يلهو شعب كامل بحكومته، وبرلمانه، وأحزابه، ومؤسساته المدنية وغير المدنية، في أهداف عدة، ومتنوعة، وغير محددة، بخطة عمل أو برنامج سياسي، واقتصادي، واجتماعي يجمع عليه الكل الشعبي كارثة، ومصيبة ما بعدها مصيبة.
و هذا بالضبط أردت قوله في حالتنا الفلسطينية الراهنة، والمنقسمة على نفسها فأنا لست من أنصار مقولة “أن هناك انقسام بين فتح و حماس”، فالحقيقة والواقع تقول غير ذلك، وكل تجارب شعبنا إن كانت بالخارج، أو الداخل تدل على غير ما يطرح الان، من أن الانقسام الحالي بين فصيلين سياسيين كلٌ منهما يود فرض برنامجه، وضروراته على الآخر .
طبعاً بالتأكيد أن لهذه المقولة نسبتها من الصواب، ولكن البحث الشامل، والمتوازن لمجمل الحالة الفلسطينية يدلنا على أننا جميعاً بحاجة لإعادة صياغة ثقافتنا، ومفاهيمنا التي تربينا و نشأنا عليها منذ زمن، فالقضية لم تبدأ اليوم، وأحداثها لم تقتصر على الأعوام الماضية فقط؛ بل إنها تجاوزت حدود ذلك بكثير، ووصلت إلى عدة عقود ماضية من الاختلاف، والإنقسام، والتناحر في بعض الأحيان .
و للتأكيد على ذلك لا بد لنا من الحديث بوضوح، وتفصيل أعمق، وأشمل، حيث اختلف الفلسطينيين عائلياً، وطبقياً أثناء الانتداب البريطاني، وخلافاتهم هذه انعكست بشكل سلبي وأليم على الواقع السياسي، والإجتماعي والإقتصادي لفلسطين آنذاك، وحصل ما حصل من ضياع للقضية، وخسارة للبلاد، وإقامة دولة اسرائيل على هذه الأرض المستحقة لنا الاف السنين.
كذلك كان الأمر شبيهاً بعدما هجر الفلسطينيون وعاشوا مشردين في بقاع المعمورة بأكملها، حيث ظهرت نزعات الثورة والإننتقام والإنتفاض على الواقع المرير في المخيم، والمواقع الأخرى، حيث حاول الفلسطيني لملمة جراحاته بطريقته الخاصة، فكان ان بدأت تظهر ما سميت آنذاك بالبؤر الثورية المختلفة كل حسب تواجدها جغرافياً، وطبيعة النظام الذي يحكم مكان هذا التواجد، هذا الأمر بحد ذاته جعل من هذه البؤر التي اطلقت على نفسها (ثورية)، أن تحدد لنفسها أهدافها الخاصة التي رأتها مناسبة لها، ولشعبها وبالرغم من أن معظم هذه البؤر، أو المجموعات حاولت تغطية نفسها بشعار وهدف واحد(تحرير فلسطين)، إلا أننا وجدنا بعد ذلك الكثير من الأهداف التي لها الأولوية ما يسبق هذا الهدف (المعلن)، وحتى مع انطلاق حركة فتح والثورة الفلسطينية بشكل عام، وبمختلف فصائلها وحتى بعد تأليف جبهة (منظمة التحرير الفلسطينية) وانضواء فصائل العمل الوطني تحت رايتها امتازت فترة لا بأس بها بالكثير من التناقضات، والاختلافات بل وحتى التناحرات الدموية أحياناً.
وبقي شعار تحرير فلسطين على حاله وهو كذلك بقي العنوان (الشماعة) الذي يطرح تحته اسمه الكثير من المشاريع، والاعمال، والأطروحات، وللتفصيل في هذا الشأن أكثر فإننا نقول أنه ظهر على الساحة الفلسطينية ما يقرب من 16 فصيلا، كلها حملت شعار وهدف تحرير فلسطين، وكذلك كلها زعمت أنهاالأقدر على تحقيق هذا الهدف النبيل، وكلها تبارت وتسابقت في الترويج لفكرها ومعتقداتها؛ بل وتمجيد نفسها على حساب القضية في الكثير من الأحيان، إلا أننا اكتشفنا الآن بعد ما يقارب الأربعين سنة ان معظم الاهداف الغير معلنة، قد تحققت وبقي فقط الهدف المعلن (تحرير فلسطين) لم يتحقق.
فمن رغب بالوصول لعضوية المجلس الوطني فقد وصل، ومن رغب بالسفارة أصبح سفيراً، ومن رغب بالوزارة فقد اصبح وزيراً، وبقيت فلسطين التي رغبت طوال حياتها أن تبقى فلسطين وأن لا تغتصب ولم يتحقق لها ما أرادت، وبقيت الأمور على حالها- بل لا أقول على حالها- إنها ازدادت سوءاً عشرات بل مئات المرات، حتى وصلنا الى وقت يسكن الضفة الغربية ومدينة القدس حوالي مليون مستوطن، يعربدون ويسرحون ويمرحون بين مدننا، وشوارعنا، وعلى ظهور شوارعنا، وعلى ظهور جبالنا، فأصبح من كان يخاف أصحاب الأرض يمارس أبشع صور القهر، والإهانة بحقهم.
وفي المقابل زادت فصائلنا باطراد، وزادت أهدافها بشكل ملفت وغريب، وأصبح لدينا اليوم فوضى عارمة، تسمى فوضى الأهداف، فلكل منا هدفه فمنا من يريد إقامة إمارته الخاصة وحراستها ليس من الاحتلال وإنما من أبناء شعبه، ومنا من يحاول الوصول ولو بالحد الأدنى لأي نوع من الدولة، ومنا من يسرق شبابنا في خدمة الأجهزة الدولية ومخططاتها، ومنا من لا يبخل بتعريض المشروع الوطني للضياع والهلاك حفاظاً على امتياز، أو علاقة وطيدة مع دولة (صديقة)، ومنا من يريد إقامة شركته الاستثمارية الممولة أجنبياً ولا هم له سوى زيادة أرباحه، واستثماراته البنكية وغير البنكية، ومنا ومنا…الخ، فلكل جهة هدف ولكل جماعة هدف ولكل فصيل هدف ولكل مؤسسة مدنية، او اجتماعية أهدافها الخاصة منها المعلن ومنها غير المعلن، هذه الفوضى المسماه فوضى الأهداف تفرض نفسها بقساوة علينا، وعلى واقعنا الفلسطيني الأليم.
هذه الفوضى لا ينفع معها حبة أو عدة حبات من المسكنات المسماة بجلسات الحوار المتقطع المتباعد في الفكر، والأسلوب وحتى الهدف (كما اسلفنا)،
فنحن بحاجة ماسة وضرورية للنبش في أعماق أعماق عقولنا، علها ما زالت تحتفظ بجزء قليل من هذا الهدف المسمى فلسطين.
نحن بأمس الحاجة لأن نعاود الكشف فكرياً عن أنفسنا، وعن ذواتنا الفلسطينية الجامعة الموحدة، التي يجب أن تتنحى كل الأهداف من أجلها ولأجلها، فلا ينفعنا إن كسب أي فريق منا أي مسابقة هنا أو هناك، وخسر الشعب مجموعة المسابقات، نعم هذا ما يحدث بالضبط حينما تجد الشعوب نفسها بعد عقود عدة، وهي تقاتل في حروب ليست حروبها، فتدفع ثمناً ما كان عليها أن تدفعه وكان الأجدى بها توفيره لمعاركها الحقيقية الصحيحة، ومع العدو الصحيح، هذا ما نعنيه حينما نقول أننا حقاً شعب يعيش “فوضى الأهداف”