لآفاق حرة
من سيارات “الديزيتو” إلى “المازدا”
#نجم_الدين_سمّان
إذا كان أولُ “الأتومبيلات” بأربع عجلات.. قد وصلت إلى مدينة حلب عام 1909 بجهود الخواجة يوسف أندريا؛ فلن تتوقعَ كلّ شركات السيارات في العالم.. بأنّ إحداها ما تزال تعمل حتى لحظةِ قدومِ مُهندس ياياني من شركة “مازدا” إليها؛ مع أول صفقةِ سياراتٍ أبرمتها حكومة الأسد الأب.. وباعتها للمواطنين بصفتها سمساراً برُخصَة.
كان سِعرهُا.. أولَ سؤالٍ لنا وَجهناهُ للمُهندِس اليابانيّ حين دخل إلى “مقهى القصر” الذي نرتادُه؛ فلم يجِد مكاناً من الازدحام؛ ولمَحَهُ أحدُنا.. فنهضَ ودعاه إلى طاولتنا؛ انحنى الياباني عِدّةَ مراتٍ لِمَن دعاهُ.. ولنا.. واحِداً تلو واحِدٍ.. وبتهذيبٍ شديد؛ طلبنا له قهوة إكسبريسو إيطاليّة ولكن.. على الطريقة الحلبيّة؛ ثمّ مرّت سيارة “مازدا” قادمةً من شارع بارون باتجاهِ “حَيّ العزيزيّة” فابتسم الياباني.. مًشيراً إليها؛ وقال بانكليزيّة يابانيّة فصيحة: – هذه مِن سيارت شركتنا؛ وأنا مُهندِسٌ فيها.
وحينَ قال لنا سِعرَها بالدولار في اليابان ذاتها.. أدركنا بأنّ حكومتنا العتيدة قد باعَت مُواطنيها كلَّ سيارةٍ.. بأربعةِ أضعافِ ثمنها.
اكتفينا بهَزّ رؤوسنا.. لم نقل للياباني السعرَ الأسديَّ لسياراتِ شركته؛ حتى لا ننشرَ غسيلنا الوَسِخ أمامَ الضيوف؛ حِفاظاً رُبما.. على “اللُحمَةِ الوطنيّة” المُغلّفَة بسيلوفانٍ مُلوَّن.
أشادَ اليابانيّ بجمال مدينةِ حلب القديمة وبقلعتها وبفنون مَطبخها العتيد.. ثمّ تابع: أمّا الشيء العجيب الذي رأيتهُ في حلب.. وكانت صدفة خياليّة خلال حديثه.. أن تمرَّ سيارةُ ديزوتو بثمانيةِ رُكابٍ.. وخَلفَها سحابةٌ من بُخار المازوت المحروق؛ فأشارَ إليها وهو يقف: – هذه هي.. هذه هي.. كيف تنحرّك حتى الآن؟!.
لا يُمكن لنا.. أن نُجِيبَ مهندسَ سيارتٍ يابانياً.. ونحن لا نعرفُ المُرَادِفَ الإنكليزيّ لمُفرداتٍ.. مثل” التصويج؛ خراطة الكوليات والبسطونات؛ تصنيع رأس نسر.. بِصَبِّ الرَمل ليكون في مُقدمةِ سيارة “الديزيطو” كما يلفظها الحلبيّون. حتى أنقذنا الياباني بسؤاله: – هل ليدكم مصنعُ مُختَص بترميم السيارات القديمة ؟!
فابتسم أحدُنا وهو يُجيبُه: – لدينا سِلسِلةٌ مِن هذه المصانع في حلب.
فانحنى اليابانيّ إجلالاً عِدّة مرّات.. حتى اقترحَ أحدُنا أن نأخُذَه إلى “كراج السليمانيّة” وهناك سيتعرَّفُ ميدانياً على نكهتنا الخاصّة في ترميم وإحياء السيارات المَيتة هندسياً وفيزيولوجياً.. مِن وجهةِ نظرِه.
حكى لنا صديقنا كيف أخذَ مُهندسُ المازدا الياباني إلى تلك الورشات؛ فوقفَ اليابانيُّ مذهولاً عند دكان “الصوّاج” وهو يتأملُ كيفَ يُعِيدُ كلّ طعجةٍ في هيكل السيارة كما كانت.. يدوياً؛ وبمِدَقَةٍ خشبيّةٍ مِن بَناتِ عَمومَةِ مَدقِةِ الهَبرة غتد القصّابين؛ وتابعَ ذهولَه في مَحلّ “الكهربجيّ” وكيف يُزيلُ الكابلات القديمة كلّها ويستبدِلُهَا بكابلاتٍ جديدة.. وبسرعةٍ قياسية؛ ثمّ تابعَ ذهولَهُ في دُكانةِ “الخرّاط” وهو يرى كيف تتمّ خِراطَةُ “بسطونات” جديدةٍ لأيّ موديل في العالم.. على الإطلاق؛ وهكذا.. حتى وصل إلى ورشة المكنسيان أرتين الأرمنيّ/الحلبيّ.. وهناك استوطنَ طيلةَ فترةِ زيارتهِ يتفاهمُ معه بالإشارة وبواسطة البَسطُرمَة والكونياك والسَلَطَةِ الأرمنيّة؛ لأنّ البارون أرتين مُتمَسِك بلغته الأمّ.. حتى أنّه يحكي العربيّة بطلاقةٍ أرمنيّةٍ لا تُميّز بين المُذكر والمُؤنث والمُخنّث.
ذهبَ بعضنا بعد أسبوعٍ إلى كراج السليمانية حيث استوطن المهندس الياباني فرأهُ ما يزال يتجاذب أطراف الحديث عن أسرار في السيارت لا يعرفها سوى ذاكَ الأرمنيّ؛ وحين رآنا اليابانيّ.. وقف مبتسماً وهو ينحي باحترامٍ بُوذِيّ.. طالباً أن نترجم لأرتين ما سيَعرِضُه عليه.. وهذا نصُّ الحوار بعد الترجمة المُحلّفَة:
مهندس المازدا: لديّ عرضُ عمل لكَ في شركتنا.. براتبِ شهريٍّ قدرُهُ 5 آلاف دولار -وكان مبلغاً كبيراً بالليرة السورية آنذاك.. وما يزال- ثمّ تابع: بالإضافة الى سكنٍ مجانيّ ومواصلاتٍ مجانيّة.
غَبَّ ارتين من زجاجة الكونياك: – عندكُن جالية أرمنيّة.. في اليابان؟.
مهندس المازدا: – لا أعتقد.
أرتين: – هيك صارت صعب؛ طيب.. عندكن كونياك.. بَسطِرمَه.. عَرَق مثلّث.. عرق كبريتي بتصير.
مهندس المازدا: لا أعتقد.
أرتين: هيك صارت أصعب بكتير.. بارون أرتين ما بتطلع من حلب إلّا على يريفان.. وبس.
وهكذا غادر المُهندس اليابانيذ مكتئباً حتى أننا خِلناهُ سينتحر مثلَ فُرسان الساموراي.. وبقيَ هكذا.. حتى عندما أعدناه إلى مقهى القصر بسيارة ديزوطو مِن تلك التي كانت تشتغل على خط سيرفيس “العبارة – الميدان”؛ قبل أن ينقلوها وهي تتهالَكُ إلى خطِّ سيرفيسِ “المِنشيّة – الهُلُّك الفوقانِي والتِحتانِي” فبقيت صامدةً فيه.. نِكايةً بالمازدا اليابانيّة.