(من سلسلة قرأت لكم) : الشاعر الجميل عوض ناصر الشقاع في ديوانين له.

كتب:كمال محمود علي اليماني(اليمن)

عوض ناصر الشقاع أحد الشعراء الذين كنت أحب قراءة أشعارهم ، وقد كان دائم النشر في صفحة الثقافة في صحيفة 14 أكتوبر إبان تسعينيات القرن المنصرم، ثم توقف عن النشر هناك لسبب لا أعلمه ، ولقد كان رحيله في 15 مايو 2020،ولم أقرأ لد ديواناً قط ، غير أنه لحسن حظي-وإن جاء متأخرا- فقد أهداني قبل أيام الصديق عبدالله بانافع نسخة لكل ديوان من ديوانين للشاعر الشقاع ،أما أولهما فبعنوان ( عناوين لرحلة الغيوم ) ، وأما الثاني فبعنوان ( طقوس النار والأحجار ) ، وهما ديوانان صادران في العام 1998.
وإن كنت قد علمت من مقال تأبيني كتبه عنه الأستاذ نجيب سعيد باوزير حينها ، وذكر فيه أن للشاعر دواوين أخرى منها ديوانه ( الدفتر السقطري وقصائد أخرى ) ، وقد كان معدا للنشر مع ديوانين آخرين هما ( متاهات في كتاب الرمل)، والآخر قصائد متفرقة من حصاد سنوات العقد الثاني من هذا القرن الحادي والعشرين .
قرأت الديوانين ووجدت فيهما من جمال الشعر الكثير ، ولقد حمل ديوان ( طقوس النار والأحجار ) نفساً رومانسياً خالصاً ، تحيلك قصائده إلى مدرسة أبولو لما حوته من عذوبة الألفاظ وسهولتها ، وجمال موسيقاها التي تطرب النفس والسمع، فيما حمل ديوان ( عناوين لرحلة الغيوم ) قصائد تنتمي لمدرسة الديوان ؛ إذ تخاطب العقل قبل الوجدان ، وتطرح الأسئلة تلو الأسئلة في حوارات تبتعد عن القلب وتقترب كثيرا من العقل.
ولو أننا عرجنا على الحقل الدلالي لديوان ( طقوس النار والأحجار ) لوجدنا مفردات مثل: انهمار، موال بحري ،إنه الحزن ، وجد ، الحلم الغريب، الياسمينة، اللحن الأخير ، عناقيد الملل ، في معبد الشمس، وغيرها ، في إشارة واضحة للنفس الرومانسي لقصائد الديوان . في حين أن الحقل الدلالي للديوان الآخر حمل مفردات مثل: شاهد الأفق الرمادي ، عناوين لدفتر الانسحاب ، جدار العبث، البدوي ، فتحت الكتاب، هوية ، حروف زكريا ومفرداته، دروب أحمد، وتمزقات
” خان الخليلي”، ويلمس القارىء غياب النفس الرومانس في هذا الحقل.
والديوانان زاخران بالانزياحات الدلالية ( استعارة ، كناية ، مجاز ..) ، وكذا الانزياحات التركيبية ( التقديم والتأخير ، الحذف ، الإيجاز .. ) ، وهو ملىء بالتجسيد والتشخيص والتوازي وغيرها من جماليات الشعر، نقتطف منها:

* تتسرب اللحظات بين أصابعي .
*يعود الأمس منهمراً.
*أذبح الصمت بصوت منذبح.
*ودماي لبلاب على الأسوار.
*يرخي مع الجمرات حبل عنائه.
*وفيك تركض مأساةٌ بدون مدى.

ومن الانزياحات التركيبية قوله:
*عاشقٌ من أول الحزن أتى.
*لحبيبي أبتدي هذا الغناء.
* يجيء بسلة الأفراح نشوى.
*في الدرب يسحب أربعين جنازة.

وهو يلجأ إلى التوازي كقوله:
*أمتص غربة عالمٍ متوجع
وأذوق خيبة عالم ٍ متوتر.
*محاسنها كأنفاس الحقول
ذوائبها كالحصان الجموح.
*كنتِ البلاد إذا البلاد تأنقت
كنتِ الزمان إذا الزمان تعطرا.

والشاعر ، في هذين الديوانين ، لم يلجأ إلى التناص ؛ إذ لم أجد له إلا تناصاً واحداً في قصيدته “الرحلة” ، وهو تناص مع قصة سيدنا موسى و سيدنا الخضر ( عليهما الصلاة والسلام ) في سورة الكهف :
خذ بكفي أجد على الماء خبرا
قال: لن تستطيع عندي صبرا
فانطلقنا.. ( وكرر الشاعر الفعل انطلقنا ثلاث مرات).

وقصائد الديوانين كلها من الشعر البيتي ( العمودي) ،وإن ظهرت في الديوان بعض القصائد المكتوبة بهندسة بنائية تفعيلية ، ولكنها مخاتلة للبناء ليس إلا ؛ إذ هي قصائد عمودية أصيلة أعاد الشقاع بناءها سطريا؛ إما مجاراة لشعراء التفعيلة ، أو رغبة منه في تقطيع القصيدة إلقائيا ، أي أنه يجبر القارىْ على أن يقف حيث يريده هو أن يقف. وأقرأ معي هذا المثال:
صباح الخير:
ياغيري الذي سميته نفسي
ويا أحجارَ أخطائي التي سميتها حدسي
طقوسُ النار مسهبة ٌ
فهل للورد من طقس ِ؟
وكيف يكون قدّامي وممنوعاً من اللمس ِ؟!

أليست تنبنى عموديا هكذا؟:
صباح الخير: ياغيري الذي سمّيته نفسي
ويا أحجارَ أخطائي التي سميتها حدسي
طقوسُ النار مسهبة ٌ فهل للورد من طقسِ؟
وكيف يكون قدّامي وممنوعاً من اللمسِ؟!
والشاعر عوض ناصر الشقاع ( رحمه الله) شاعر جميل ومتمكن من أدواته الشعرية ، وإن كان له من عيب –في تصوري- فهو تأثره الشديد بتجربة الشاعر الكبير الراحل عبدالله البردوني ( رحمه الله) ، حيث جاءت كثير من القصائد على ذات النسق البردوني ؛ فتحس روحه ملاصقة لك وأنت تقرأ أشعار الشقاع ، وتجده يتبع ذات الأسلوب في التساؤلات ، ويكثر مثله من ذكر أسماء الأشخاص والمدن في قصائده.
وأقرأ معي هذه المقاطع وقل لي ألا تشعر بروح البردوني محلقة في أرجاء المكان؟ :
أهتز ، تهتز المدينة كلها
هذا فؤادي .. أم بصدري قنبلة؟
تتسارع الدقات.. يطفر داخلي
وترٌ فجائي يحل المسألة
هذا وجيب القلب .. هذا رمله
هذا انطفائي في العهود المقبلة .
أو قوله:
ساعديني على النوى يا” أمينة”
قلق اليوم فوق ما تعهدينه
في عيوني همت مواسم عطشى
وعلى أضلعي طيور حزينة
وزعتني الديار جزءاً فجزءاً
نبحتني تلك الكلاب اللعينة
فجبيني نسيته في مطار
ولساني- أظنه- في سفينة

لم أقرأ للشقاع دواوينه الثلاثة الأُخر –إن كان قد وفق لطباعتها- ، ولهذا فأنا أتمنى أن يكون قد تخلص في قصائدها من هيمنة روح البردوني .
ويظل الشاعر عوض ناصر الشقاع ( رحمة الله تتغشاه) شاعراً من أجمل الشعراء الذين قرأت لهم،وأعجبت بأشعارهم أيما إعجاب.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!