من هو / بقلم: فاطمة حرفوش (سوريا)

لا أذكرُ متى رأيتُ وجهه للوهلةِ الأولى …
لكن كلَ ما أذكره ، أنّي مذُ رأيتُه تملَّك روحي وإحتلَّ قلبي .
أحببتُه بكلِ جوراحي ولا أخجلُ من الإعترافِ بذلك وأعلنُ حبي له أمامَ الملأ كله ، أحاولُ أن أصفَه لكنَّ الحروفَ والكلماتَ تهربُ مني خشيةَ عدمِ إنصافه فأجري وراءها أمسكُ بناصيتها محاولةً إرضاءها فتلينُ .
أمسكُ بالقلم فيتساءلُ : كيف ستصفين من تحبين وهو يقاربُ الشمسَ شأناً ويعلو عليها ؟!.
أهمسُ لا أدري سأدعُ الروحَ تتكلمُ والقلبَ يدونُ حديثها بمداده الأحمرِ .
قامةٌ شامخةٌ تسمو على أعلى قمةِ جبلٍ عرفته في حياتي ، صادقٌ ، قويُ الإرادة ، وثابٌ لا يهابُ شيئاً ، عالي الهمةِ ، راسخُ العزمِ والعزيمةِ ، تمتدُ جذوره عميقاً في عمقِ التاريخِ ، نسبُه عريقٌ يصلُ لأطهرِ وأنبلِ ما عرفه البشرُ ، معتدلُ القامةِ لكنه بحجمِ الكونِ …
يمشي الهوينا فتهتزُ الأرضُ لوقعِ أقدامه ، أسمرٌ لونت الحنطةُ وجهه ، خطفَ شَعْرُه من الليلِ سواده وبنورِ القمرِ اغتسلَ وجهه . أُلبِسَ من الأسماءِ أحسنها وتكنى بالنصرِ وأيُ نصرٍ !!…
تحلى العقيقُ بأنامله فنامَ بهدوءٍ حامداً ربه لنعمةِ وجوده في يده ، وأنا أيضاً حالي كالعقيق حمدتُ الله أنّي عشتُ في زمنٍ قد عاشَ هو به وإنّي وإن كنت لا أراه بأم عيني فإنّي أراه بعيون قلبي .
رقيقٌ حنونٌ عذبُ المحيا ، يبتسمُ … فيبتسمُ قلبي ويطربُ لسماعِ صوته ، ساحرٌ الأوصافِ لكنه لا يتقنُ فنونَ السحرِ . لا أدري كيف سحرني منذُ النظرةِ الأولى عندما أطلَ من وراءِ الشاشةِ !!!.
يروقني جداً سماعَ حديثه وهو يتكلمٌ برقةٍ فتنهالُ كلماتُه كأولِ حباتِ المطرِ في موسمِ الشتاءِ على قلبي وسمعي وأعشقُ صوته وهو يهدرُ بقوةٍ كالطوفانِ يتوعدُ عدوه بقطعِ يده إذا امتدت بالعدوانِ ويزمجرُ كالأسدِ في عرينه ملوحاً بإبهامه قائلاً : هيهاتُ منا الذِلةُ .
ليس فقط أنا من تهوى سماعَ صوته ، الملايينُ تُصغي بشغافِ قلبها لحديثه الساحرِ ، يطلُ بين الفينةِ والأخرى يتحدثُ فيصمتُ العالمُ . ويترقبُ أعداؤه حديثه بفارغِ الصبرِ ، ولحديثه وقعٌ في قلوبهم أكثرُ صدقاً ألفَ مرةً من زعمائهم .
عشقَ الجنوبُ خطواته الأولى وتنسمَ الهواءُ عطرَ أنفاسه فشبَ عن الطوقِ باكراً عركته الحياةُ فتغلبَ عليها بحنكته وحكمته .
إختارَ طريقَ أجدادِه الوعرِ المليءِ بالتحدياتِ والصعوباتِ المُعَمَدِ برائحةِ الدمِ ، ووضعَ أمامَ نصبِ عينيه طريقاً واحداً لا ثاني له .
اعتمرَ عمامته السوداءِ وتوشحَ بعباءةِ جده وبدأ يخطُ ملامحَ طريقه المتجهِ أقصى الجنوبِ قاطعاً شريطَ الحدودِ ليستقرَ أخرَ المطافِ في قدسِ الأقداسِ …
ينامُ وعينهُ ساهرةّ ، تتطلعُ بإستمرارٍ بإتجاهِ عدوه وما يخططُ له ، يراه يصولُ ويجولُ ولا أحدٌ يقفُ بوجهه فيؤلمه ذلك . قررَ أن يضعَ حداً لغطرسته ، امتشقَ سيفَ الحقِ وبدأ يعدُ العدةَ لعدوه ، يكيلُ له الضرباتِ المؤلمةِ حتى خرجَ مدحوراً مذلولاً من أرضه محققاً إنتصاراً تاريخياً هزَ أركانَ دولةِ عدونا وزلزلَ كيانه …
كان هذا أولُ إنتصارٍ كبيرٍ جرى إنجازه بعدَ حربِ تشرين التحريريَّة في ٦ تشرين الأول عام ١٩٧٣ التي قامت بها سوريا ومصر بوقتٍ واحدٍ ضد إسرائيل ، وفيها حقق الجيشان السوري والمصري إنجازاتٍ كبيرةٍ بعدَ عدةِ أيامٍ من بدئها ، حيث اعتلى الجيشُ السوري قمةَ جبلِ الشيخِ ، واحتلَّ مرصدَ جبلِ الشيخِ الإسرائيلي وتقدَّم أميالاً في عدة أماكن وسط جبهات القتال .
و تخطى الجيشُ المصري خطَ بارلييف لكنَّ لذةَ هذا الإنتصارُ ما لبثت أن اعتراها إنكسارُ كبيرُ ، حين أعلنَ الجيشَ المصري وقفَ الحربِ بعدَ ثلاثة أيامٍ من بدئها ، هذا الإعلانُ شكلَ صدمةَ قاسيةً لنا مزقت قلوبنا ، وتُرِكَ الجيشُ السوري وحده يخوضُ معارك َ إستنزافٍ طويلةٍ قاسيةٍ امتدت لثلاثِة أشهرٍ انتهت بهدنةٍ ، تمَّ بعدها رفعُ العلمِ السوري في سماءٍ مدينةِ القنيطرةِ المحررةِ ، أما مصر فقد وَقَعت إتفاقيةَ كامب ديفيد مع إسرائيل أعادت سيناء لها وأبرمت معاهدةَ سلامٍ وخرجت من الصراع العربي الصهيوني …
لكنَّ تحريرَ جنوبِ لبنان ، كان حلماً صعبَ المنالِ ويستحيلُ تصوره ، شعرَنا للمرةِ الأولى بلذةِ الإنتصارِ ، وتذوقنا طعمَ الكرامة وما ألذَّ طعمها لكل حرٍ أبيٍّ !!!…
أيقظَ إنتصاره الأملَ الغافي بأرواحنا ، بأن نرى أرضنا المحتلةِ تعودُ لنا ، رأينا عدونا غارقاً في بحرِ أوحاله ، يغسلُ عارَ هزيمته مع أعوانه .
منذُ ذلك الحينِ بدأ العالمُ كله يتابعُ ما يجري بأدقِ تفاصيله ، لكنَّ عدونا لم ينس طعمَ مرارةِ هزيمته ، فعاودَ الكرةَ مرةً أخرى بعدوانٍ غادرٍ فعاجله بنصرٍ آخرٍ رقصَ تموزُ له طرباً وما أروعه من نصرٍ !!!. خطَّه بدماءِ وتضحياتِ رفاقِ دربه وتضحياتِ شعبٍ إختارَ الإباءَ والصمودَ عنواناً له .
لستُ أنسى ما عشتُ عندما كان يخطبُ في شاشةِ التلفازِ ويتوعدُ عدوه أثناءَ حربِ تموز ، عندما وجَّه كلماته لعدوه ( إنظروا إلى البارجةِ الحربيةِ التي تقفُ أمامَ السواحلِ البحريةِ وتقذفُ بيروتَ بنيرانِ حقدها تحترقُ الآن )…
فعلاً لم تمر إلا ثوان قليلة ورآى العالمُ كله هذا المنظرُ المهيبُ .. بارجةٌ حربيةٌ تشتعلُ النيرانُ بها وسطَ البحرِ ، ذُهِلَ العالمُ حينها وذُهِلنا نحن أيضاً ، كيف لقلبي الصغير أن يحتملَ كلَ هذا الفرحِ ؟!!!.
لا أدري كيف مرت تلك اللحظاتُ بوقتها دموعُ فرحٍ غمرت وجوهنا ، وقلوبنا طارت وحلَّقت فوقَ الغيمِ .
أشعرُ أنَّ روحي وقتها قد طارت وعانقت جبينه الوضَّاء بكل حبٍ وقداسةٍ ، فارسٌ قلَّ أن جادَ الزمانُ بمثله .. فارسُ الكرامةِ والإباءِ والنصرِ صاحبُ الوعدِ الصادقِ وعدنا بالنصر وحققَ وعده .
كنا نتابعُ هذه الحربُ ومجرياتها على شاشاتِ التلفازِ لحظةً بلحظةٍ ، ونتناقلُ أخبارها بمتعةٍ وفرحٍ لا يوصفُ ، كثيرُ من الليالي كنا نقضيها سهارى نتراقبُ أخبارها العاجلةَ وخسائرَ العدو الكبيرةِ بآلياته وجنوده ونتابعُ تقاريرَ المراسلين الصحفيين ، وبطلي الإسطوري يطلُ كلَ فترةٍ يرشقُ العدو بسهامه الناريَّةِ ، ويتفننُ بحربه النفسيَّة وإذلاله ويكيلُ له الصاغَ صاغين ما أجملها من أيامٍ !!. ..
أجملها حين بشَّرنا بعمليةِ الوعدِ الصادقِ وحققَ فرسانُه إنجازاً كبيراً بأسرِ جنديين إسرائيليين بعمليةٍ بطوليةٍ فريدةٍ من
نوعها أحدثت صدمةً كبيرةً في الكيانِ الغاصبِِ في ١٢ تموز ٢٠٠٦ .
ثم تلا عمليةَ الوعدِ الصادقِ ، إنجازٌ أخرُ كبيرٌ جداّ في ١٦ تموز ٢٠٠٨ ، تمَّ بعمليةِ تبادلِ أسرى استطاعَ خلَّالها بعد مفاوضاتٍ طويلةٍ مع العدوِ تحريرَ أسرى أبطالٍ ، قضوا سنواتٍ طويلةٍ في سجونِ الأحتلالِ تحت التعذيبِ وجثامين شهداءٍ ، عادوا مكللين بالغارِ والفخارِ ، أيامٌ فريدةٌ لا تشبه مثيلاتها …
والله لم نشعر بشموخٍ وفخرٍ كما شعرنا بتلك اللحظات من حياتنا ، من مثله منحنا ذلك ؟!.
وعندما هدرَ طوفانُ الأقصى في ٧ تشرين الأول في غزة وحطمَ غطرسةَ العدو وكسرَ حصاره وبدأ يهدرُ بقوةٍ لا مثيلَ لها ، وأمطرَ كيانَ العدو ببوابلٍ من الصواريخِ ، التي عصفت بمستوطناته ، وأسرَ مئاتٌ من جنوده وسكان مستوطناته وقتلَ العديد َ منهم ، وقفَ بكل شموخٍ معهم منذُ اللحظةِ الأولى داعماً ومسانداً ، في حين أُلجِمت ألسنةُ معظمِ زعماءِ العالم العربي بأكمله من هولِ المفاجأةِ وغرقوا في بحر الصمت ، وكأنَّ لا وجودَ لهم في عالمنا ، أو ما يجري لا يمتُ لهم بصلةٍ أو أن ما يحدثُ من أحداثٍ يقعُ في كوكبٍ أخرٍ في حين أنَّ شعوبهم كانت تفيضُ فرحاً وتعبرُ عن فخرها بإنجازها التاريخي ودعمها للمقاومة الباسلة لكنَّ جبنَ زعمائها وعمالتهم للعدو كبحت جماحها ، بينما إشتغلت مدن العالم وعواصمها بمسيرات الدعم …
وعندما بدأ العدو يصبُ جامَ حقده على غزة وأطفالها ونسائها ، وباشرَ حربَ إبادته ليسترجعَ ماءَ وجهه الذي هُدِرَ بفضلِ سواعدِ المقاومين الأبطال وبطولاتهم الخارقة ، أعلنَ أنَّه لن يتركَ غزة وحدها فريسةَ الحقدِ الصهيوني ، فحشدَ فرسانه وبدأ يمطرُ الكيانَ الإسرائيلي وقواته ومستوطناته بصلياته الصاروخية التي طالت معظمَ مدنه وقواته ومستوطناته من الجنوبِ الأبيّ الَّذي خَبِرَ بطولاته ، وأعلنَ أنَّه لن يتوقفَ عن قصفِ الكيان الغاصبِ حتى يتوقفَ العدوانُ الغاشمُ على غزة وشعبها الأبيّ .
واستمرَ في تقديمِ الدعمِ للمقاومةِ في غزة إلى الآن ، وهو ثابتٌ في موقفه لا يتزحزح عنه قيدَ أنملةَ رغمَ التهديدات الإسرائيليّة بالردِ وإجتياحِ الجنوبِ ، وهذا ماقامت بالفعلِ به وضربت القرى في الجنوبِ بوحشيةٍ لا توصفَ ، وقصفت بيروت وضاحيتها الجنوبية ببربريةٍ قلَّ أن رأينا ورأى التاريخ مثلها فاقت النازيةبإجرامها ، في حين أنَّ الحكومات العربية تقفُ عاجزةً تتفرجُ والبعضُ منها يُدينُ المقاومةَ لأنَّها السببَ في نشوبِ الحربِ ، وبقي على موقفه الداعمِ لأكثرِ من عامٍ …
وقد وعدنا مجدداً بنصرٍ جديدٍ ، بدأت بشائره تلوحُ في الأفق ، بينما العدو الغاشم يغطي عجزه برمي أطنان حقده على مدننا في غزة وفلسطين ولبنان واليمن وسوريا إن غيَّبته الشهادةُ جسداً لن تغيَّبه روحاً وفكراً ووجوداً ورفاقه يكملون مسيرته من بعده وبنفسِ الروحِ الوثابة للنصرِ فهل عرفتم من هو ؟.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!