‏رمضانُ صديقا/ بقلم:جاسم الصحيح

صديقيَ.. شهرَ رمضان !

لن أقف في حضرتك وقوفَ الوُعَّاظ والخطباء لأنني لا أجيد الوعظ، ولا أتقن الخطابة; سوف أقف بوصفي صديقا قديما ترعرع في حديقتك طوال ما يربو على خمسين عاما خلت.. أيْ منذ أن كان في قامة العشب حتى أصبح في قامة النخلة. خمسون عاما يا رمضان.. أليست كثيرة على الصداقة لدرجةِ تحويلها إلى مجرَّدِ أُلفة حيث تتخفّف العلاقات الإنسانية من حرارتها؟!

أتذكَّر أنني بدأتُ معك طفلا لا يعرف من معناك سوى الإمساك عن الأكل والشرب. لذلك ، كان كثيرا ما يجلدُ بي الحياءُ أرضا حينما أجرحُك في النهار بسكِّين الغفلة. وحينما يتدفَّق الليل من منابعه العُلويَّة، يترجَّل ذلك الطفلُ عن صهوةِ إمساكه على مائدتك الموفورة، مجذوبا إلى أكلاتك الشعبية بكلِّ أشكالها حتَّى ترتوي فيه شهوةُ الطعام. ولم يكن لديك ما يجذبه إلى أحضان السهر بعد أن ينفرط عقدُ المائدة.. لم يكن لديك سوى القرآن الكريم جالسا على عرشه، مفتوحا أمام الطفل الذي يقرأه على نِيَّته حيث تتعثّر الكلمات بين شفتيه، بينما أصداءُ لياليك تعلو، فيما الظلامُ يتكسَّر على رائحةِ فوانيسك، ويطويني ما بين أذرعة النوم على عجل لتظلّ الفوانيسُ تلك تلهث حتى آخر أنفاس الحياة.

تركض أيَّامك وأنا أركض خلفها حتى نرتطم جميعا بجدران الوداع. وهناك ، لا تستطيع أن تمنعني عن وداعك (جِنِّيَّةُ) الليل التي تقفزُ خارج الأسطورة كلَّ ليلةٍ، وتزرعني في الفراش مبكِّرا. يوقظني الهزيعُ الأخير على صوت (المسحِّر)، فأقفز على حاجز الخوف وعقبة الظلام، وأتبعه مندفعا في لـجَّةٍ من الصبيان والكبار نضيء معا الأزقَّة التي لم تصلها الكهرباءُ بعد، بمصابيح التكبير والتهليل، بينما (المسحِّر) ينقشُ أشكال آلامنا لفراقك على جلدةِ طبلته.

ثمَّ تمضي يا صديقي، وقد تركتَ لنا هديّة بحجم الطفولة اسمها: العيد.. عندما كان عيدا، وكُنَّا لا نعرفُ مَن هو الأكثر فرحا في صباحاته: نحنُ أم الأثوابُ الجديدة التي ترفرف علينا بالسرور مثل أطيار هاربة من الأقفاص؟! هناك.. كانت تضمّنا الأرجوحةُ الحنون بين جوانحها بحنان الأمومة، وتلاعبنا على أذرعتها حتى نشعر بأنّ العيد قد تسرَّب داخل ذواتنا بكامل أناقته وروعته.

في الطفولة يا صديقي.. كانت النفسُ كاملةَ الروحانيَّة، فلم أكن أحتاج للتطهُّر في مصافي قُربك كثيرا.. وإذا كانت التقوى هي سرّ الصيام، فالتقوى هناك كانت قائمة على الفطرة.. وكان يكفيني أنْ أتَّحد بمظهرِكَ إيذانًا بالقدرة على الولوج إلى جوهرِكَ في الكِبَر.. فالمظهر طريقٌ إلى الجوهر كما كنت أظنّ.

لقد كبرنا معاً يا رمضان، ولست وحدي الذي كبر. ومثلما كنتُ أراك تطفحُ بالروحانيَّة على ملفع أمّي، رأيتكَ تطفح بالروحانيّة ذاتها على خمارِ زوجتي منذ أن سقطتُ من رحم الأولى إلى حضن الثانية وأنا في التاسعة عشر من العمر. لقد كبرنا أيها الكائن الجميل، وكبرتْ معنا مائدتُك مِئةَ طبقٍ من الحلويات والفطائر والكبّة والكفتة وغيرها. لقد كبرنا.. وصغرَت التقوى الروحانيَّة، ولم تعد أنتَ قادرا على الخروج من الكتب والصِّحاح بكامل طاقتك كي تتجسّد في النفوس.

لقد كبرنا.. وأصبحنا حضاريِّين يا صديقي.. فها أنتَ تولد من صفحات الإنترنت في شكل بشارة، وتخرج من موسم الدعاء إلى مواسم البيع والشراء، وتتصدَّر الإعلانات ذات الألوان والأضواء التي تخنق الحقيقة بالوهم. وها نحن نخمد أنفاسَ لياليك في بُحيرةِ السهر على شرفات التلفاز، ونضيِّع جواهرك في الشعائر، ثمَّ نغادرك إلى العيد الذي استبدل جذوعَ الأراجيح بالحديد من فرط حضاريَّته، وأطلق البوالين الملوَّنة بدلا من طائرات الورق.. هذا هو العيد : فرحٌ آيلٌ للصدأ من فرط ما نخرته كيمياءُ النسيان.. نأتي إليه لنقاومَ صدأهُ بطلاءِ الابتسمات والتهاني والثياب الجديدة بعد أن تآكلت القيم في باطنه.

في الختام يا صديقي.. لا بدّ أن أعترف أنني ترعرعتُ في أكناف صديقٍ لا تبردُ صداقتُهُ مهما ران عليها جليدُ القطيعة، وغداً سوف تضيء قناديلُك في كُوى الزمان والمكان.. فلا تنسَ أن تضيئها قبل ذلك في أعماق الإنسان.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!