آفاق حرة
فراس حج محمد/ فلسطين
دائماً، أفكر بهذه المسألة على نحو جَدّيّ جدّاً، أمتعض إذا ما وصفني قارئ بأنّني نزاريّ السمت والأسلوب والنهج، أصاب بالخنَس في داخلي، كيف لي أن أُبْعد نزاراً أو درويشاً أو أدونيس أو أيّ شاعر على شاكلة هؤلاء عن حوافّ قصائدي وأن أتخلّص من وهجهم الشعريّ؟ ليس بُغضاً لهم أو كرهاً لشعرهم، بل حبّاً لذاتي، وتقديراً لمشروعي الشعريّ الذي أمضيت زمناً طويلاً وأنا أدافع عن أحقيّة وجوده في سياق الشعر الحديث.
قد يشعر بعض الشعراء بالزهو، وقد تمّ تشبيههم بأدونيس، أو درويش، أو نزار قبّاني. يبدو هؤلاء الشعراء هم وحدهم مقاييس الشعر في العصر الحاضر. بشكل عامّ لا أرى في صالح الشاعر أن يقال له إنّك تشبه أدونيس أو درويشاً أو نزار قبّاني. هذا يدلّ على التقليد وفقدان الشاعر لصوته، فلم يكن ناجحاً كشاعرٍ بالقدر الكافي؛ ليكون هو نفسه مدرسة خاصّة متفرّداً بصوته، ولم يستطع بشعره أن يُنسي القارئ تلك الأصوات الراسخة في عالم الشعر. إنّه وجهٌ آخر مخفيٌّ من وجوه الرداءة.
ربّما الجهل بعوالم الشعر هو الدافع لتأطير الشاعر الجديد في قوالب قديمة، أو مدارس معروفة، أو لعلّه الاستسهال وعدم الاطلاع الكافي. كيف لشاعرٍ أن يشبه شاعراً آخر؟ لا أظنّ أنّ الفكرة مقبولة، كأنّ الشعراء نُسَخ عن أصل. لن يكون الأمر في صالح الشاعر المنسوخ، فهو ليس منسوخاً فقط، بل سيكون ممسوخاً أيضاً. نعم إنّه ممسوخ، فمَن مِن الشعراء يرضى لنفسه أن يكون منسوخاً ممسوخاً عن أيّ شاعر، ولو كان شاعراً عظيماً؟ إنّ أسوأ طعنة في قلب الشاعر أن يقول له قارئٌ إنّك تشبه درويشاً أو أدونيس أو نزاراً أو لوركا. إنّها طعنة مسمومة ليس لها شفاء إلّا بالصمت المطبق. من وجد ذلك فليبتعد عن لغته القديمة، ويفتّش له عن لغة جديدة وبحر جديد يغرف منه جنونه العبقريّ. أو فليصمت، ولا يعيد إنتاج اللغة ذاتها أو الصورة عينها، لأنّه لن يكون ماهراً إلى حدّ إخفاء الأصل، سيكون عمله تشويهيّاً من طراز قلّ نظيره.
الشاعر الحقيقيّ هو من إذا قرأه القارئ يُحدث لديه غربة ودهشة وضياعاً في اللغة والصورة؛ تُنسي المتلقّي كلّ الدراويش الدرويشيّين والأدونيسيّين والنزاريّين. كأنّه يَقُدّ لغة جديدة، غريبة عن كلّ لغة معروفة. لغة له وحده، من صخره هو، من منجمه، من معمله، من تجاربه، من لحمه الحيّ؛ فيها رائحته هو، وبصمته هو، لا يسير على منوال أحد، بل يخترع له طريقاً بكراً معتمة تضيئها عيناه، وتحفر مسربها يداه. يشقّها بالمغامرة، فيكون قائداً، ولا يهمّه بعدها من سار فيه وتبعه. فمن رضي أن يكون تابعاً في الشعر، فإنّه سيظلّ ذليلاً بين أيدي القرّاء وعقولهم وتصنيقاتهم وأوصافهم العابرة، سيعيش شاعراً مُقزَّماً، ومصنّفاً. إنّ خير الشعراء شاعر أربك المشهد والنقّاد جميعاً، واحتاروا أين يضعونه، وفي أيّ تصنيفٍ يحشرونه، وعلى أيّ منهجٍ بحثيّ يقلّبون قصائده، ليولد وحْدَ نفسه، لا شريك له في شعره لا من قريب ولا من بعيد، كافراً كفراً مطلقاً بشركاء الصنعة الشعريّة.
ليس هناك ما هو أخطر على الشاعر من شعر غيره. على الشعراء أن يفرّوا من الشعر، ولا يقربوه، إذ ليست مهمّة الشاعر أن يقرأ شعر غيره. ولا أن يتذوّق قصائد غيره، ولا أن يتأمّل مجازات غيره، بل إنّ الشعراء مفسدة لذائقة الشاعر الخاصّة، فكلّ قصيدة مكتوبة هي اقتراح جماليّ للغة أصبح باهتاً بمجرّد ولادته، لا يُلتفت إليه عند الولادة القادمة ولا يُحفل به، ولا يطمح إليه شاعر حقيقيّ ليكون له؛ لئلا تختلط مع ذائقته الصانعة شوائب صنعة غيره في كلّ اقتراح جماليّ مولود، فيتوه، ويُصاب بالدوار وبالصرع، والمسّ المرَضيّ، ويصبح لا شعراً أعطى ولا بيتاً أبقى!
هؤلاء الشعراء الثلاثة (أدونيس، درويش، نزار قبّاني) شكّلوا مدارس راسخة في الوعي الجمعيّ للقارئ في فترة زمنيّة ممتدّة لأكثر من نصف قرن، كيف للشاعر الجديد أن يتسرّب إلى الوعي الجمعيّ ليزحزح أولئك الشعراء عن مركز تفكير القارئ، وأن يُوجد له مقعداً بجانبهم؟ عليه أن يفكّر بالكرسيّ/ الشعر الذي سيتركه في العقل، ليكون شاعراً راسخاً يُشار إليه، أسوة بهؤلاء “المدارس” من الشعراء. فلا تترك صورة هشّة للكرسيّ في عقل القارئ، فإنّك عندئذ لن تستطيع الجلوس على كرسيّ هشّ موضوع في عقل قارئٍ اطمأنّ إلى ما لديه من كراسي الشعراء الراسخين.
كم يحتاج الشعراء الجدد إلى قتل الشعراء الكبار، ليولدوا بحرّيّة دون قيد أو شرط أو تصنيف عرّضيّ ظالم. ولكنْ، هل سيعرف الشعراء الجدد كيف يُقتل الشاعر الكبير؟