لصحيفة آفاق حرة
ــــــــــــــــــــــــــــ
حديث الورد
بقلم – المحامي محمد الغانم أبو غانم
للورد في الذاكرة وقفاتٌ وهمساتٌ وذكريات وفيه وعنه كتبَ كبار الكتّابِ والشعراءِ وغنى محمد عبد المطلب وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهم من الكبار …
للورد مغنى ومعنى وهو الحاضرُ في كلِّ مقامٍ ومقال ولا يكتملُ زواجٌ أو صباح أو مساء أو خطوبة أو استقبال لضيف عزيز أو زيارة صديق وحبيب أو مناسبة نجاح وتخرّج وتعيين في وظيفة أو منصب أو ترفيع وترقية ولا زيارة لمريض في مشفاه أو ميت في قبره دون أن يتقدمنا الورد أو يسبقنا بأشواط أو تجده ينوب عنّا ونكتفي أن نرسم أسماءنا على بوكيهاته التي تُقلّها سيارات حديثه فارهة برفقة عامل أنيق يحمله بلطف ويستدير بجسمه ويحتضنه كي يصل إلى مستودعه بكامل هيئته وقد كُتب عليه بشبرة من حرير ( إهداء من فلان وعائلته أو تقدمة من فلان وحرمه ) وعبارات أخرى طنّانة وبديعة تناسب الحدث والزيارة …
والورد له ألوان وأشواك ناعمة أو مئبرية وله عطر مختلف باختلاف نوعه وتشذيبات خاصة حتى بات تنسيقه وطريقة إعداد بوكيهاته تحتاج إلى أبحاث وخبرات ودورات وأصبح له مزادات وبورصات وأسواق عالمية رائجة ودول مشهورة بانتاجه وتصديره وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك هولندا والبرازيل وإسبانيا واليابان وعربيًّا فلسطين سيما ورود غزّة هاشم ولن تغيب عن ذاكرتي يومًا ما شاهدته من الجو بأم عيني عام ٢٠٠١ من أصناف الزهور المزروعة في السهول الشاسعة على شكل حقول متناوبة الألوان لتصنع لوحة زاهية تفتن العقل حيث كنت لحظتها أُطلُّ من نافذة طائرتي للأسفل وهي تحلق في حالة هبوط فوق سماء هولندا لتستقرّ في مطار عاصمتها تلك العاصمة الجميلة التي تتسابق مياه البحار والمحيطات المحيطة بها على شكل السوار في المعصم لإغراقها نظرًا لانخفاض موقعها عن سطح البحر وتأبى تلك الدولة الصغيرة الموت والفناء وهاهي تواجه البحر بجدران اصطناعية تم إعدادها بتقنية عالية وأشير بأن للورد أنواع وأسماء مختلفة منها زهرة اللوتس والجوري والكاميليا والفل والياسمين والدفلة والزنبق والخشاش ولاننسى مايرافق الورد عند التنسيق من حشائش ناعمة تحتضن أزهاره وتحيط بها …
بائع الورد كبائع الذهب والمجوهرات لذا عليه أن يكون رقيقًا ناعمًا أنيقًا مؤنسًا سلسًا…
وحين نتكلم عن الورد نقصد الورد الطبيعي الذي يملك الروح والإحساس وليس الورد الصناعي الجامد الفاقد للذوق والملمس وأسباب الحياة …
أجد السعادة تغمرني في هذه الأيام لأن متجر أزهار السنابل يجاورني وأُطل من شرفتي أو أجلس على كرسي أراقب العشاق وأشباه العشّاق وهم يتهافتون عليه ويشترون الباقات الصغيرة التي تناسب جيوبهم المثقوبة وكذلك تصطف على بابه سيارات الأفراح الحديثة لتزيينها بالورود لذا فحين أقرر تصويب جلستي وتعديل مزاجي بمزيد من متعة النظر أختار شرفتي مكانًا للجلوس لبعض الوقت متجاوزًا في كثيرٍ من الأحيان المسموح به وبات من حقي عند عرض بيتي للبيع أن أطلب زيادة في الثمن نظرًا لموقع بيتي وإطلالته الجميلة على مركز بيع الورد ولِما يصلني منه على الدوام من روائح زكية ونظرًا لروعة الإطلالة أصابتني عدوى لذا قمت بتقليد شرفة بيتي ببعض الورود وأحواض الزريعة ومن حولها أقفاصٌ تحوي طيورًا تُغرِّدُ أعذب الألحان…
كيف لنا أن نتحدّث عن الورد ولا نردد أغنياته ( الورد جميل … جميل الورد … الورد جميل وله أوراق … عليها دليل من الأشواق … إذا أهداه حبيب لحبيب … يكون معناه وصاله قريب … شوف الزهور و اتعلم … بين الحبايب تتكلم.
تعود بي الذاكرة إلى السنوات الأخيرة من العقد الأخير من الألفية الأخيرة في بلاد العم سام والتي يهتم أهلها بالورد كما نهتم نحن بحشو كروشنا بالطعام والشراب وهناك شاركني في السكن بائع ورد فلسطيني يُدعى خالد من مخيم الرمل بلاذقية العرب ومن خلاله تعرفت على الكثير من باعة الورد العرب في ولاية فرجينيا التي أعتبرها أجمل ولايات أمريكا ودفعني الفضول لمرافقة بعضهم أكثر من مرّة إلى حيث كانوا يبيعون ويعرضون بضاعتهم في الملاهي الليلية وأماكن السهر والطرب والمطاعم الفخمة وهذه وحدها تحتاج لساعات طويلة للحديث عنها نظرًا لكثرة تفاصيلها …
لابد لنا ونحن نتحدث عن الورد أن نرصد مسيرته الحالية في بلادنا العربية حيث الفقر والجوع والدماء والحروب لذا فتجارته خاسرة وأشبه بالانتحار وأشفق كثيرًا على باعته من شباب وفتيات يتوزعون عند الإشارات الضوئية وهم يحملون ورودهم بأيديهم وينادون لعلّ هناك من يلبّي دعوتهم بالشراء وقليل من يشتري لأنه يُفضّل شراء ربطة من خبز لأولاده بثمن الوردة أو الباقة.
ومنذ أيام تابعت على الجزيرة تجربة غوطاني ( شخص من الغوطة ) تم تهجيره إلى إدلب وهناك تابع مسيرة عمله القديم بحيث أعدَّ مشتلًا صغيرًا للزهور وهو المشتل الوحيد – حسبما ذكر – في عموم محافظة إدلب وشاهدناه وهو يتنقل ويعرض أزهاره …
ويبقى الورد للأغنياء، وللفقراء النظر عن بعد ولأننا نتحدث عن الورد فعلينا الحذر من شياطين الإنس الذين باتوا يروجون لسمومهم وبيعها لزبائنهم بحيث يضعونها بطريقة فنيّة بين الزهور …
أختم بتجربتي الشخصية الضحلة والتي تكاد مع ورود الحب وفي مرحلة مبكرة ( الإعدادية ) أن تكون المرّة الفريدة حيث كنّا في صفوف مختلطة وفقدت حينها كتابي لأيام وما أن وجدته على مقعدي في راحلة صفّي وإذ بين صفحاته ورودٌ مجففة تعبق وأوراقٌ مُعشّقة بعطر الورد وبقي الأمر مجهولًا لا أعرف مصدره إلى يومي هذا ومن تكون تلك الجانية عفوًا العاشقة هههه.
#خربشات أبوغانم.
…….
إربد- الأردن