الترجمة: مصطفى الورياغلي.
الناشر: المركز الثقافي العربي – الرباط.
بقلم: احمد العربي.
” كان العقاب رهيبا، انتظرت خمسين عاما لأتمكن من تأليف هذا الكتاب”
هكذا يعنْوِن الطاهر بن جلّون سيرته الروائية “العقاب” التي يتحدث فيها عن اعتقاله في عام ١٩٦٥م، إثر مشاركته في مظاهرات طلابية تطالب بالعدالة والديمقراطية، واعتقل على إثرها، وتلقى صنوف التعذيب المختلفة مع آخرين، كانوا بحدود المئة شخص لمدة عامين تقريبا.
كانت البداية عندما خرج مجموعة من الطلاب الجامعيين مع آخرين عام ١٩٦٥م في مظاهرة تطالب بمزيد من الحرية والعدالة والديمقراطية، منتقبة الفساد والمظلومية المجتمعية. شارك فيها الطاهر بن جلّون الطالب في قسم الفلسفة في جامعة فاس، مدينته التي ولد وتراجع فيها. كان عمره حوالي العشرين عاما، لم تسلم المظاهرة، فقد واجهتها قوى الأمن والشرطة، بالعنف المسلح، استشهد البعض وأصيب البعض وحولوا الى المستشفيات للمعالجة. لم يصب الطاهر في المظاهرة، هرب مع بقية المتظاهرين ناجيا من سطوة الأمن وسلاحهم. لم يمض وقت طويل حتى تم استدعاء الطاهر الى مراجعة أمنية في مدينة “الحاجب”. كان ذلك مرعبا له وللاهل الذين يعرفون ماذا يعني الاستدعاء الأمني من اعتقال وتعذيب وقد يسجن لفترة تصل الى السنوات. ليس أمام الطاهر الا المثول للأمر. توجه مع أخيه الأكبر الى مدينة الحاجب، سلم نفسه للمسؤول الأمني الذي بدى رقيقا أمام اخيه. لكنه انقلب على الطاهر بعد ذلك يضربه بعنف وحشي وهدر لانسانه الطاهر وكرامته. اكتشف الظاهر انه واحد مع كثيرين مثله، يصلوا إلى مئة شخص تقريبا. وأنهم في معسكر اعتقال، وأنهم يتلقون عقابها عن تمردهم على السلطة، وأنهم يتبعون بشكل مباشر لسلطة وزير الداخلية القوي الدموي الجنرال “أوفقير”. يرأس المعسكر التأديبي الجنرال عبابو، يساعده ضابط آخر تحت امرته الجنرال عقا. اختصاصهم التفنن في التعذيب والإساءة للمعاقبين. الاساءة والتعذيب يطال كل شيء. الطعام وسوئه وقلّته. النوم القليل، التعذيب الجسدي بالإجهاد عبر قطع الحجارة ونقلها واستخدامها لإعمار حائط ، ومن ثم هدمه، ايقاظهم في الليل تعرضهم للحر الشديد، والبرد القارص، حسب الفصول، انتشار الأمراض بينهم. تعرضهم لمضايقات جنسية لواطة ببعض الموقوفين أو مع بعض السجانين الشاذين، اعطاؤهم علاجات تخفّف القدرة الجنسية. الاهانات الدائمة واتهامهم بغياب الانتماء الوطني وخيانة الدولة والملك. استمر ذلك حوالي السنة، وبعد ذلك نقلوا الى معتقل آخر اسمه “اهرمومو” ، تعرفوا على ضباط جدد يتفننون في تعذيبهم أيضا ووسائل جديدة مبتكرة. الاستيقاظ ليلا. البقاء وقوفا في العراء والبرد شبه عراة لساعات طويلة. السجن الانفرادي، المفردات مع البراز والفئران والحشرات. المسير الليلي الطويل المنهك والمتعب.
كما أنهم وضعوهم في أجواء حرب حقيقية، سلموهم السلاح وجعلوهم يخوضون معركة مع آخرين وسقط منهم قتيل وكثير من الجرحى. زادت حياتهم تعاسة وسوء، كانوا يعتقدون إنهم يعدونهم لمعركة قادمة، ظنوا أنها ستكون مع الجزائر. حيث كانت الخلافات المغربية الجزائرية على أشدها.
عاش الطاهر في هذه الأجواء وقد وطد نفسه على الصبر والتحمل. حيث تحول بعض المعاقبين شاذين جنسيا. أو أصيبوا بلوثة جنون من فرط التعذيب، و الاحتجاز في الزنزانة بصحبة الفئران والجرذان. كان لدى الطاهر خطيبة احبها وطلبها رسميا من أهلها. تخلت عنه عندما علمت باستدعائه الأمني. كان يحلم بها. يسترجعها كما يسترجع والده ووالدته التي يخاف عليها من صدمة اعتقاله، كان يستعين على ظروفه القاهرة باسترجاعهم في نفسه وتذكر لحظات حياته السعيدة معهم. حاول مقاومة ظرفه القاهر باسترجاع ما رآه من افلام سينمائية حيث كان يعشق السينما. وكذلك بقليل من القراءة، عندما يتمكن من ذلك. كان مصابا في خصيته منذ طفولته. كان يجب أن يتم الإفراج عنه بناء على توصية الطبيب الفرنسي الذي تابعهم صحيا. لكن الضابط المسؤول مزق ورقة الإعفاء وتركه حتى يكمل مدة العقوبة المقررة. لم يكن يعرف الطاهر ومن معه. هل هم يتدربون لحرب قادمة، أم عقوبة، وهل نهايتهم الموت او المشاركة في الحرب أو السجن، كانوا قلقين وخائفين. وبعد مضي حوالي السنتين بدأت ظروف المعسكر تتحسن، الطعام افضل، التعذيب والإساءة اقل، الضباط يحاولون التقرب من المعاقبين. بدؤوا بالتجهيز النفسي لهم بقرب الإفراج عنهم. ويتم الإفراج عن الطاهر وآخرين في عام ١٩٦٨م. ويصل الى بيتهم ويفرح به أهله والده ووالدته وأخيه الأكبر واقرباؤه وكثير من جيرانهم وابناء مدينتهم.
بعد الخروج من الاعتقال، لم يستطع الطاهر ان يعود الى حياته الطبيعية السابقة، لقد أصبح النوم عسير عليه، يصاب بالسهد الدائم. كما لم يستطع أن يتحرر من ذكرياته المؤلمة التي عاشها. فهي ظائما حاضرة في نفسه، كما وجد خطيبته قد هربت مع فرنسي وتخلّت عنه. عاد إلى دراسته وحصل على شهادته الجامعية. وبدأ يفكر بشكل جدي بالخروج من الجزائر الى فرنسا، عاد يعوّض ما فاته من متابعات السينما.
مرت الأيام وما إن حلّ اول عام ١٩٧١م حتى جاء للطاهر وآخرين ممن كانوا معه في المعتقل استدعاء الى معسكر الحاجب الذي اعتقلوا به بتوقيع عبابو الضابط السيئ. قرر الطاهر ومن تواصل معهم عدم الاستجابة للاستدعاء وأن يجهز أوراقه للسفر الى فرنسا. كان قد تخرج من الجامعة وعمل مدرسا للفلسفة، بمعاش لا يكاد يؤمن لقمة عيشه. قرر الهرب وعدم الذهاب الى معسكر الحاجب حيث اعتقلوا سابقا. في ذات الأثناء حصل انقلاب على الملك بقيادة أوفقير الوزير القوي ومعه ضباطه عبابو وأخوه وعقا، الضباط الذين كانوا مسؤولين عن معسكر الاعتقال والتعذيب حيث كان الطاهر ومن معه من معتقلين الرأي والمتظاهرين. كان من المفترض أن يشارك الطاهر ومن معه بالانقلاب لو استجابوا لاستدعاء عبابو، لكنه أنقذ حياته بعدم الاستجابة. فقد شارك بالانقلاب ١٤٠٠ طالب ضابط وكانت نتيجة الانقلاب مقتل الكثيرين من المسؤولين ونجاة الملك وولي العهد. وتم اسقاط الانقلاب، ومحاكمة أوفقير وكبار الضباط معه واعدامهم، واعتقال صف الضباط الذين شاركوا في الانقلاب.
لقد نجا مرة أخرى الطاهر من محنة الانقلاب، ولم يشارك. لكنه كان قد قرر ان يغادر المغرب الى فرنسا وهناك يبدأ رحلة ابداع وكتابة ويصبح بعدها أحد أهم الكتاب المغاربة في فرنسا وأوروبا حيث يكتب بالفرنسية، واصبح صوتا عاليا في عالم الأدب العالمي يمثل الذات المغربية والعربية افضل تمثيل، وله حضوره الروائي والإبداعي.
في التعقيب على السيرة الذاتية لطاهر بن جلّون نقول:
نحن أمام عمل آخر رائع للطاهر بن جلّون، تعيدنا إلى المربع الأول للمأساة العربية العامة، الاستبداد السياسي والمظلومية الاجتماعية والاقتصادية، القهر الخوف الصمت والعقاب القاسي. وان المهمة الأولى المركزية على عاتق العرب جميعا : الانتصار لإنسانيتهم وكرامتهم ومواصلة نضالهم لتحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية، حتى نسير كعرب في طريق التقدم وبناء الحياة الأفضل…