في كل صباح يغادر غرفته نحو المرفإ الصغير ليستل قاربه من بين قوارب زملائه وجيرانه، ليستهل يومه في البحر يطلب الرزق. وعلى مسافة بضع خطوات من المسكن، ينقلب تجاه الغرب ليلقي كالمعتاد نظرة على المقبرة المشرفة على الساحل الرملي، ينظر إلى قبر رفيقة عمره التي ودعته إلى مثواها الأخير دون أن ينهي كل ما كان يخالجه من حب وعشق ومودة نحوها. يشعر أن مخزونه من الجوى مازال ينوء بثقل العواطف الجياشة نحوها. لم يكن يفشي ذلك أمامها قيد حياتها وفي أحلى اللحظات الحميمية، فهو قليل الكلام بطبعه، صامت في معظم أوقاته يتواصل بنظراته، بقسمات وجهه، أو بإشارات بيده ورأسه. أحيانا يشيح بوجهه إلى الجهة المعاكسة لجليسه عله يوصل إليه ردود فعله الهادئة.
وأحيان أخرى يبتسم.
مازال يناجيها في صمت يحدثها ويستشيرها في أشياء كثيرة يحتاجها لحياته. لا ينزل إلى البحر إلا بعد توديعها وهي نائمة نومتها الأبدية..
يتأمل قبرها الأحمر، فهو الذي يريده أن يبقى على هذه الحال، لا تشوب ترابه أية شائبة. فحينما يزورها رفقة إبنه، يوصيه خيرا بقبرها، وبإصرار،
– كلما أزلنا الحشائش من فوقه يظل القبر حديثا متوهجا يذكر بمن فيه، وتبقى أمك شابة كما فارقتنا، شبابا أبديا.
– تذكر يا بني، عليك أن لا تتكاسل في تنظيف قبر أمك ولا تتهاون في ذلك، لأن النباتات والحشائش تتحين الفرص لتغطي قبرها عنا وعن الشمس والقمر، وعن نسائم البحر، فيطاله النسيان. ونحن نريد أن يستمر في طراوته، ونستمر في حبها وتذكرها والحديث إليها.
هاجر قريته التي تجاور المقبرة لما رحلت عنه زوجته رحلتها الأبدية، ونحت في الجرف المطل على الساحل الرملي، غرفتين كما هي عادة صيادي القرية، أثثهما بما يحتاجه، بعدما جلب جزءا من التجهيزات من المنزل الذي لا يتفقده إلا في حالات نادرة. أصبحت الغرفتان تفيان بالغرض، خاصة بعدما أضاف سقيفة أمامهما تيسر له النظر إلى البحر، واتقاء حر شمس الهجير. يجلس على أريكة تذكره بمؤانسة رفيقته لما كانا يختلسان جلسات أمام باب المنزل بالقرية.. لا يفارقها طيلة اليوم. يجلس ويضجع فوقها. ينتظر عودة إبنه من البحر. لا يبرحها إلا للنوم في غرفته.
يتذكر، وهو فوق أريكته، بعضا من لحظات حياته. ينظر للأفق الأزرق وما يوحي له من أشياء تملأ ذاكرته وتجعله على اتصال دائم بها، يناجي نفسه بها، وهو كمن يعيد كتابتها لترسم في صحيفة الزمن ويؤبدها، ربما تصلح لمن يهمهم الأمر.
اعتزل الدخول إلى البحر بعدما لمس في ابنه عزيمة قوية على تعويضه وتحمل مسؤولية تحريك القارب والبحث عن رزقهما اليومي. فابنه متفوق في عمله رغم صغر سنه. لم يستطع إكمال دراسته الثانوية لضيق ذات اليد، ولأنه لم يقدر على فراقه. استمر الأب في تربيته بالطريقة التي يراها صالحة، حتى بلغ ما بلغه من العمر. بعد نجاحه في دراسته الابتدائية والإعدادية، كان عليه مغادرة القرية إلى المدينة لإتمام دراسته الثانوية. لقد كان الأمر صعبا عليهما معا. فالأب لا يمكنه البقاء وحيدا، ولا يستطيع العمل في القارب. ساور الإبن نفس الشعور، فلم يرد أن يتخلى عن والده، ويتركه بدون معيل، فكان الاختيار الثاني هو الصواب بالنسبة له ولوالده.
– هكذا قدر الله وهكذا أراد، فلا راد لقدره.
يتحدث إلى زميله وجاره الذي يسكن هو الٱخر في غرفتين نحتهما كما يفعل جل صيادي القرية، ليكونوا أقرب إلى البحر والمراكب وتجار السمك الذين يأتون في أوقات معلومة يشترون ما يصطاده هؤلاء من أسماك، ويرحلون بها إلى المدينة..
– لا يهم الثمن، يضيف وهو يسرد بعض ذكرياته على جاره، – الأهم أننا نجد المشتري، ويكفينا ما نحصل عليه لتستمر حياتنا وتسهل معيشتنا ونطمئن على أحوالنا وأهلنا.
ويتمم حديثه عن ابنه،
– لهذا لم يكن مناسبا أن أبعثه إلى الثانوية البعيدة في المدينة، ولو أنني واثق من أنه سيتفوق فيها كما تفوق في مستوياته السابقة..
يجيبه جاره بالإيجاب وهو يهز رأسه هزتين خفيفتين، ليعقب على حديثه..
– “حرفة بوكم لا يغلبوكم” فالبرغم من أنها حرفة تفي بما هو ضروري، إلا أنها لا تلبي كل حاجياتنا وحاجيات أبنائنا.. فيكون مصيرهم البحر والقوارب والعمل المضني..
– الحمد لله على كل حال. البحر نعمة وفيه رزقنا، علينا بالشكر وعلى الله الباقي.
يختمان حديثهما وهما يتأملان البحر في صمت وسكون، لحظات طالت شيئا ما، كسرتها نداءات زوجة جاره التي أعدت لهما قهوة العشية وبعض الفطائر. وهي عادة دأب عليها رفاق البحر ليستعدوا بعدها للإبحار لنصب شباكهم في المصائد التي يحددونها بدقة ودراية، والتي خبروها عبر السنين.
قبل توديع جاره، وهو يحمل أواني وجبة القهوة المسائية، أعاد على مسامعه التذكير بغياب الإبن الذي لم يعد من البحر هو وزميليه منذ أن دخلوا لنصب شباكهم. خاصة لما لاحظ صمت جاره المفرط، وامتناعه عن الأكل. فلم ير يده تصل إلى الطعام سوى مرتين وبدون فائدة..
– لا زلت أنتظر أخباره هو وأصدقائه الغائبين أيضا، ربما يأتي الله بهم جميعا.
يجيبه بصوت متقطع أقرب إلى الأنين…
نظر إليه قبل أن ينقلب إلى مسكنه، وهو متوجس من ذبول ملامحه وشحوبها القوي، وسكوته أكثر من اللازم. لقد أثر عليه غياب إبنه بشكل مثير للقلق. حوقل في نفسه واستغفر وحمد الله، ودعا لجاره بالفرج وانصرف..
تعاون الرفاق الغائبين في جر قواربهم لمسافة لا بأس بها ليبعدوها عن مياه البحر، ثم انصرف كل واحد إلى حال سبيله. حمل الابن ما اقتنى من المدينة من مشتريات له ولوالده، يخطو خطواته بلهفة على الرمل كما لو أنه يتصارع معها ليدرك الجزء اليابس منها. يسير وشمس الضحى ترسل أشعتها الدافئة على المنطقة، فتزيد من صعوبة الخطو. حينما اقترب من مسكنه نادى على والده ليبشره بالأخبار السارة. لم يستجب الوالد الذي اعتاد على تحريك يديه عربونا على فرحه بابنه وعمله، وهو يراه يكبر شيئا فشيئا، وعلامات الرجولة تكتسحه، بالرغم من أنه يرى في ملامحه شبها كبيرا لرفيقة عمره. انتبه الإبن أن أباه لم يتحرك من الأريكة ولم يجبه ولو بإشارة بسيطة من يده..
سمع الجيران صيحات الإبن المزلزلة وهو ينادي على والده. تيقنوا من أن أمرا جللا حل بهم. فهرعوا جميعا نحو مصدر الصياح والعويل…
– مرت إلى حدود اليوم سنة على وفاة والدي…
يحكي لزميله، وهو ينظر إلى قبري والديه المتجاورين، والتراب الأحمر يزينهما. يستحضر وصية أبيه دوما. يناجيهما في صمته المعتاد، ويستشيرهما، ويعرض عليهما برنامج يومه في سكون وخشوع، ليختم طقسه بالدعاء لهما. ثم يخطو نحو المرفإ الصغير ليكرر روتين الأيام والشهور والسنين..