الشخصية الفلسطينية المعاصرة (1_5)

سليم النجار 
يعتبر الحديث عن الشخصية الفلسطينية المعاصرة حديث العهد؛ وهو إنْ برز ضمن محاولات خجولة منذ انطلاق الثورة الفلسطينية عام 1965، خاصّة في أطروحات الفصائل الفلسطينية التي واكبت انطلاقة حركة فتح، وظهور الشخصية الفلسطينية التي قرّرت الاشتباك مع الماضي والقطع مع الممارسات المشينة التي عرفتها سنوات ما قبل النكبة عام 1948 وبعدها، وتركّزت على الهجوم والتنكيل بالدول العربية وجيوشها التي هُزمت، وكتب عشرات الكتب والمقالات التي تكشف أسباب الهزيمة النكراء، وتكرس مفهوم جديد في الضمير الجمعي للشخصية الفلسطينية بأنّ العرب هم المسؤولون عن ضياع فلسطين.
وخلال هذه السنوات بدأت الصحف الحزبية العربية تتناغم مع الضمير الفلسطيني في اتّهام العرب، وقد كان للكتاب العرب المؤدلجين دورًا في الانخراط في كتابة تاريخ النكبة الفلسطينية. وانطلقت هذه التحفظات من أنّ الكتابة في التاريخ تستلزم أخذ المسافة اللازمة من أجل الإنجاز الموضوعي، وتُضاف إلى ذلك مسألة المصادر التي يمكن أنْ تُعتمد لضمان الوصول إلى حقيقة ما جرى، فالتاريخ الراهن هو تاريخ ممتدّ في الحاضر وما تزال المفاهيم والأدوات التي ساهمت في صناعة النكبة حيّة.
ولعلّ المعضلة الأساسية في كتابة مثل هذا التاريخ على الصعيد النظري معقول ويمكن تقبله إلى حدّ ما، لكن ما لم يمكن قبوله هو غياب الحديث عن دور الشخصية الفلسطينية في النكبة، وإنْ تمّ الحديث عنها حديث بطولي، لقد عجّت مرحلة النكبة وما تلاها بهذه الصفات، الأمر الذي عزّز مفهوم أنّ الفلسطيني تعرّض للغدر والخيانة، وانتشرت كالفطر أوصافٌ للعرب في الثقافة الشعبية الفلسطينية، على شاكلة خونة وسماسرة، وجبناء، وبأنّه تمّ إنشاء كيانات سياسية عربية المحيطة في فلسطين لخدمة المشروع الصهيونية.
تعتبر هذه الأوصاف واحدة من الآليات التي يقاس بها الإنتاج للشخصية الفلسطينية، وهي عنصر أساسي في نمو الثقافة السياسية للفلسطيني، الأمر الذي أدى إلى نشوء “الغتيو” إذا جاز التعبير، وأصبحت الشخصية الفلسطينية تعيش حالة انفصام بين الانتماء العربي والقومي وبين نشوء القطرية، التي كان الفلسطيني غائبا عنها نتيجة الظروف الموضوعية التي تعرّض لها من الانتداب البريطاني الذي كان هدفه الأول والأخير إنشاء كيان صهيوني في فلسطين، وهكذا كان.
وفي ظلّ تواتر نشوء الدولة القطرية في مطلع الثلث الأول من القرن الماضي في الشرق العربي، كانت الشخصية الفلسطينية تعيش محنة المشروع الصهيوني على مختلف الصعد.
فمثل هذا الخطاب السياسي شكل الأرضية الأولى للوعي النضالي الفلسطيني التي تواصل معها معظم النخب الفلسطينية وتشكيلاتها التي ظهرت في انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وأمّا الأقلية من هذه التجمعات فقد فضلت السلامة وتحالفت مع الأردن وقبلت الانطواء ليس قناعة، بل حفاظاً على مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، ودخلنا في عصر التنافس والاستحواذ على الشخصية الفلسطينية من قٍبل هذه الأقلية والفصائل الفلسطينية في ظلّ هذا الصراع، كانت الأرض الفلسطينية تنهب ويتمّ الاستيلاء عليها من قبل الصهاينة.
ولئن كانت لحظة تأسيس النكبة لا تكشف عن كامل أحداثها ولا تعبّر عن كلّ ما جرى؛ لأنها لحظة إرهاصاتها الأولى كانت صادمة؛ للفئات الاجتماعية والمهنية والسياسية التعليمية الفلسطينية؛ والتي أرست حقائق جديدة؛ كان أبرزها ظهور نخب فلسطينية تبحث عن تشكيل خاصية لها، كباقي الشخصيات القطرية العربية في الشرق.
وهكذا فالوعي للشخصية الفلسطينية قد غابت أسئلة عنها، كان لا بدّ من البحث عن إجابات عقلانية لها، بعيدًا عن العاطفة وتضخمّ الذات وتكريس شخصية الضحية، فالسؤال الأوّل: هل حقاً أن العرب وحدهم يتحملون نتائج النكبة؟ والسؤال الثاني: هل نمت الشخصية الفلسطينية المعاصرة في سياق نضالي؟ والسؤال الثالث: هل كان لدى الثورة الفلسطينية جهازًا مفاهيمياً كابحاً لإمكانية الخروج من “الغيتو” الفلسطيني؟ السؤال الرابع: هل كان من جملة الخصائص التي دأبت الحركة الثورية الوطنية الفلسطينية عليها في تعاملها مع الشعب الفلسطيني في مختلف تواجدها كمنهج نقدي؟
وبناء عليه، فإن الإجابات غابت، وتعلقت الأسئلة بإشكالية عقدة “الغيتو”.
يتبع ٠٠٠

الشخصية الفلسطينية المعاصرة “2”
سليم النجار

لعلّ العلاقة بين الكلمات وما تفكر به، من منظور رومانسي مفتوح الجهات، هو الذي يشجع الحديث عن الشخصية الفلسطينية، رغم الاحتدامات الفكرية التي كانت تعيش فيها المنطقة العربية، وعلى وجه التحديد الشرق منه، قبل النكبة. ومحاولة الخوض والقراءة غير المتأنية لنمو الشخصية القطرية؛ التي لعب الاستعمار الفرنسي والبريطاني في نموها وتنميرتها، وما فعله ما يسمى بالاستقلال الوطني ترميم هذه الشخصية القطرية، التي تناغمت بشكل أو آخر مع مخلفات الاستعمار.
وشكلّت فلسطين نوعا من الاستثناء، فقد كانت الأمور تتجه للأسوأ نظرًا لما خططه الاستعمار البريطاني في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لذا لم تشهد الشخصية الفلسطينية ولادة طبيعية، أو في أحسن أحوالها على نمط الشخصية العربية في المشرق كسوريا ولبنان والعراق، بل انطلقت من رحم الانتداب الذي في جوهر وجوده في فلسطين إلغاء الشخصية الفلسطينية، من هنا برز التناقض، من جهة أراد الانتداب البريطاني إظهار الشخصية الفلسطينية لخدمة مصالحه الآنية والاستراتيجية، ومن جهة أخرى تكون جسرًا لتحقيق هدفه في إنشاء الكيان الصهيوني٠ قد يقول قائل هنا لا بد من التوقف قليلا وطرح السؤال: هل تغيّر شيء على هذه الشخصية؟ أم اعتراها اليأس والخجل لأنها الضحية بعد النكبة مباشرة٠ وإذا عُدنا قبل النكبة وسألنا أنفسنا سؤالا آخر: هل كنا ساديين في انتماءاتنا للصراع المحتدم بين عائلتي الحسيني والنشاشيبي؟ هذا الصراع الذي لم يكن إلا صراع نفوذ على المصالح، وكل منهما يغازل الانتداب على طريقته.

أو غياب أي ممارسة سياسية لدى القطاع الواسع من الفلسطينيين، أدى لتفاقم وتزايد وزن العنصر الشخصي في السياسة مع تصاعد دور الهامش الفلسطيني الذي قام بمقاومة الاحتلال البريطاني، وغير دليل على هذا القول “ثورة” عز الدين القسام التي انطلقت بحيفا ولم يلتحق مع هذا الثائر الجليل عز الدين القسام إلا “11” شخصا واستشهدوا جميعهم في أحراش يعبد٠ وانتظر الفلسطينيون وقتا لا بأس به لقيام ثورتهم المدنية عام 1936، التي تمثل ثورة مدنية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وباعها ساسة فلسطين بوعود كاذبة من الدول العربية في ذلك الوقت التي كانت لا تملك من أمرها شيئا، وكانت خاضعة لرؤية الاستعمارين البريطاني والفرنسي الذين كانا مهيمنين على الشرق والعراق ومصر.
وإن كانت الدراسات التاريخية الفلسطينية التي تناولت تاريخ فلسطين أثناء الانتداب البريطاني ومرحلة سقوط فلسطين في براثن الحركة الصهيونية التي أفضت لقيام كيانهم السياسي، قد انتهت إلى عقم هذه الدراسات، وإن كانت كتابات إميل توما قد انتهت إلى عقم الرؤى والمواقف السياسية التي كانت سائدة ما قبل النكبة، والتي أدت في أحد تجلياتها إلى تسريع بناء الكيان الصهيوني الغاصب.
ويمكن القول: إنّ أهمية التاريخ في بناء الهوية الوطنيّة، وإنّ استسهال الكتابة في التاريخ، واعتمادهم على تجميع الوثائق والمعلومات وتقديمها في قالب أقرب للهزل، ومن ثمة ظهور ما يمكن تسميته بالكتابة التاريخية الهاوية. والاعتماد على الوثيقة الرسمية التي هي في الأساس وثيقة استعمارية، وإعادة بناء التاريخ على أساس النصوص المحلية.
ظلّ البحث التاريخي الفلسطيني المقاوم منغلقاً على نفسه لفترة طويلة، وعلى سبيل المثال جماعة الكفّ الأسود التي تشكّلت من أفراد وطنيين وأغلبهم كانوا يعملون عمال نظافة في بلدية حيفا للتغطية على أنشطتهم النضالية القائمة على تصفية العملاء الذين يتعاونون مع الإنجليز وبيع الأراضي، وحتى هذه اللحظة لا يُعرف عن هذه الجماعة إلا القليل القليل٠ كما أن العمليات التي تستهدف الطيارين الإنجليز -وقد تم اصطياد العديد منهم وتحديدا في نابلس كما ذكر المناضل الكبير بهجت أبوغربية مع كاتب السطور- وهذه العمليات حسب علمي لم تُذكر، وربما إذا ذكرت فهي قليلة.
وهكذا، فالوعي بالشخصية الفلسطينية المعاصرة، في سياق تاريخ الحركة السياسية الاجتماعية الفلسطينية والتاريخ المعاصر، الذي ينطوي على اعتبارات وقضايا ناقصة يجري البحث عنها من أجل إدراجها في المشروع الوطني الفلسطيني.
إذاً هنا لا بد من السؤال: إن الشخصية الفلسطينية المعاصرة عاشت وتعيش ما بين مدّ وجزر إنْ صحّ التعبير؟ أو تعيش مرحلة التقهقر، وهل نحن في مرحلة الرجوع إلى الوراء؟
لذا فإنّ أي حديث عن أسس الشخصية الفلسطينية المعاصرة وأصولها، لا بد وأنْ يطرح في البداية مسألة الأصل والأساس كما تطرح في هذه الشخصية، وكما هو معلوم إن الحديث الأصل والأساس، هو دراسة النشأة والتكوين لإثبات النسب والوقوف عند الأصل. كما كتب معظم الكتاب الفلسطينيين والعرب إنّ الأصل كنعاني، لكن تناسوا أو لم يفطنوا أن الكنعانيين لم يؤرخوا تاريخهم، بل الذي فعل ذلك هم الفراعنة! مع التنويه عند الحديث عن الأصل والأساس، لا نقصد البحث عن بداية ونهاية٠ لأنّه ببساطة إنها -أي الشخصية الفلسطينية المعاصرة- ليست شجرة أنساب متجذرة في أصل، متواصلة الأغصان، متجهة نحو السماء.
لذا إنّ الكتابة الشخصية الفلسطينية المعاصرة هو وقوف عند حالة بعينها، عند احتلال فلسطين والنضال من أجل تحريرها، ليضفي على الشخصية الفلسطينية المعاصرة صفة الغاية والهدف فيصبح هو معنى تاريخ الشخصية الفلسطينية المعاصرة.
يتبع٠٠٠

الشخصية الفلسطينية المعاصرة “3”
سليم النجار

لقد أُتيح لي الآن في ظلّ هذه الظروف العصيبة التي يمّر بها شعبنا الفلسطيني، من حرب إبادة من قبل الكيان الصهيوني، أنْ أتناول هذه الحلقة مقرونة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالحكاية الشعبية، التي تكتنفها الكثير من الأسرار والصناديق المغلقة.
وللحكاية حضورها الدائم في حكايات الأهالي، فالحكاية في اللغة العربية، أصلاً، من الفعل حكي يحكي حكاية ومحاكاة٠ فهي نوع من التمثيل والتشبيه وهي أقرب إلى التمثيل بشكل أو بآخر.
وإذا كانت الحكاية بشكل عام قد ولدت مصاحبة للمثل والأسطورة والخرافة، فإنها كانت هي المدونة الكبرى بالنسبة للمثل بوصفه مدونة صغرى، فهو أقرب إلى العنوان أو اللغز، لهذا عبرت عن رهبة الإنسان من اللغز، الذي شعر به الفلسطيني على وجه التحديد، وهو لغز سقوط فلسطين في براثن الحركة الصهيونية، ومن قبله خضوع فلسطين تحت “الانتداب البريطاني”، فصارت الحياة الفلسطينية لغزًا، فما أكثر الحكايات التي تقايض الحياة بلغز؛ حيث ارتبطت بالسرّ أو السرّ المودع، في الضمير الجماعي للفلسطينيين، كما حكايات (ألف ليلة وليلة)، وبعض الحكايات الشعبية الاجتماعية التي انتشرت إبّان انطلاقة الثورة الفلسطينية، ثورة القسّام، كما في حكاية (الزواج الجبري)، الذي زعم من روّج لها أنّ الثوّار كانوا يذهبون للقرى وتحديدا قرى الشمال الفلسطيني، ويطلبون بقوّة السلاح تزويج فتاة لثائر كان “يريدها” لنفسه، وكان المانع على سبيل المثال عدم التكافؤ الاجتماعي، فوالد البنت مختار، والثائر فلاح بسيط، قبل يلتحق بالثورة، ومثل هذه الحكايات انتشرت كالنار في الهشيم.
وفي تلك الفترة لم يكن أحد معني بالبحث عن مروِّج هذه الحكايات، خاصّة أنّ مثل هذه الحكايات كانت تؤخذ على محمل الجديد والصدقية، ولا مجال لتكذيبها. ولأنّ الحكاية علاقتها بالإنسان مصيرية، وعلاقة وجود وحياة، لأنّ الحكاية هي الأرضية والفضاء الذي يسكن فيه، ويبني حضارته ويرسم تحضُّره، وكيانه فيه، ذلك أنّ الحكاية بوصفها نظامًا اجتماعيًا وعاطفيًا ينتظم العلاقات الإنسانية في كلّ هذه المجالات ولننظر إلى حكاية شاعت في فلسطين (أن الشيوعيين يتزوّجون من إخوتهم)، وكان خلف هذه الحكاية الإنجليز لأنّ الشيوعيين رفضوا الانتداب وبأشكال مختلفة ومتنوِّعة كإنشاء الحزب الشيوعي الفلسطيني، أو من خلال عصبة التحرّر التي رفعت السلاح ضدّ الانتداب البريطاني، ولاقت هذه الحكاية رواجًا كبيرًا في الأوساط الاجتماعية الفلسطينية. واستمرت مثل هذه الحكايات وتطوّرت كسرديات وأصبحت من الذاكرة الشعبية الفلسطينية، وبكلمات موجزة وجمل قصيرة، مركّزة ومكثّفة، لكي يمكن تداولها بصورة بشكل طبيعي وبلغة مفهومة وعامية قريبة من واقع المتكلِّم والمتلقّي، ومن خلال صياغة بلاغية شعبية مؤثرة، يتمّ فيها إرسال رسالة سريعة ومختصرة إلى المستمع وفيها نوع من التحريض على الثورة، وغالب هذه الحكايات مجهولة القائل، وهي من خصائص الحكاية الشعبية حتّى تصبح ملكية جماعية ومعبرِّة عن ضمير المجتمع الفلسطيني.
لقد تنوّعت الحكايات المحرِّضة على الثورة الفلسطينية، كحكاية أنّ الفدائي الفلسطينيّ يردِّد بشكل ساخر قول (إيد على الزناد وإيد على الأفخاذ)، ومن أكثر الحكايات انتشارا وإيحاءً للحكايات الجنسية التي تعبر عن غريزة الإنسان وسخريته من الواقع الذي لا يلبي حاجاته الجسدية وغير الجسدية، (الرفيق للرفيقة والولد للتنظيم)، وهذه الحكاية على وجه التحديد كانت موجهة لفصائل اليسار الفلسطيني المسلحة. التي كانت تتشدّد في برنامجها السياسي الذي يرفض أيّ اتّفاقات مع “إسرائيل” ويصرّ على أنّ فلسطين من المية إلى المية، وبصرف النظر عن هذا الطرح سواء من اتّفق معه أو اختلف، كان الهدف من بثّ هذه الحكايات تقزيم وتعهير العمل الفدائي الفلسطيني، وإن كان العنوان اليسار.
ولا بدّ أنْ نعلم تمام العلم بأنّ الجسد هو جوهر حياة الإنسان وكينونته، لذا من كان يروِّج لهذه الحكايات يعلم علم اليقين أهمية زجِّ الجسد في الحكاية، خاصّة في مجتمع مثل الفلسطيني الذي يغلب عليه الطابع الريفي. ومن أهم صفات هذا المجتمع أنه يحافظ على مكانة الجسد، كما الأرض التي يمتلكها.
ومن أكثر التقنيات التي وُظِّفت في الحكاية المعادية للفدائي الفلسطيني تقنية التلميح التي تعني الإشارة، والتي أصبحت علمًا معروفًا في النقد الأدبي، وهو السيميائية، ولكن التلميح في الحكاية الفلسطينية مثل نوعًا من الرسائل السريعة من المرسل إلى المستسلم/ المتلقي من أجل اختصار الكلام الطويل والزائد.
لقد ارتبطت الحكاية المعادية للثورة الفلسطينية بمفهوم الاستمرار. واستخدام سلاح الاستمرار الذي يلاحقه الزمان، والنسيان الذي يسببه التقادم. وذلك لترسيخ المعنى وحفظه من الكلام الذي ينسخ بعضه البعض. لذا ارتبطت الحكايات النشاز والمعادية لأيّ فعل وطني فلسطيني بقيم اجتماعية قائمة على مؤسسات اجتماعية بالية كالمخاتير وما يسمى الوجهاء، والشخصيات (المستقلة) التي عادة تُمثل في التجمعات الفلسطينية المتواجدة في أصقاع الأرض وجهات النظر السياسية للدول التي تعيش فيها. فإنّه يجدر بنا أنْ نتساءل أولا، إلى أية أخلاق تريد مثل تلك الحكايات أنْ تعود بنا؟ وراء إنتاج المعاني إذن قوى تهدف إلى الإخضاع والسيطرة على الفلسطيني، وإلحاقه بمجتمعات هشّة لا تعرف من حياتها وتاريخها إلاّ ما رسمته قوى الاستعمار، التي تجلّت بأبشع صورها السياسية والتي عُرفت ب “الدولة القطرية” وما تفعله مثل تلك الحكايات هو اختزال القضية الفلسطينية، وحصرها في حكاية، والتي تعتبر مدماكا أساسا في تكوين الشخصية الفلسطينية التي أخذت طابعا عنيفا في وصف الآخر العربي ونعته بأبشع الأوصاف، بل تمثل جزءا لا بأس به من التفكير للشخصية الفلسطينية واعتبرت نفسها منزهة عن أي خطأ أو فعل أي رذيلة.
ولم تنجح الثورة الفلسطينية المعاصرة في بناء منظومة قِيَم تواجه هذه الحكاية إلاّ في حالات نادرة، وأصبحت الشخصية الفلسطينية الملتزمة والمنخرطة في صفوف الثورة الفلسطينية، شخصية منبوذة، في جُلّ الأوساط الاجتماعية الفلسطينية.
يتبع…

الشخصية الفلسطينية المعاصرة “4”.
سليم النجار
دائما ونحن بصدد استجلاء أهم الروافد الاجتماعية للشخصية الفلسطينية المعاصرة التي استلهمتها من تاريخها المسكوت عنه نصياً والمحفوظ شفاهياً في ظلّ غيابٍ شبه تام من قِبل الكتّاب والمؤرِّخين الفلسطينيين والعرب عن رصد هذه الظاهرة٠
في هذا السياق وعلى امتداد هذا الغياب وبشكل بارز، وهو ما يظهر من خلال الصراع الذي حصل بين العثمانيين والفرنسيين بقيادة نابليون بونابرت الذي غزا مدينة يافا، وحاصرها وطلب من حاكمها على “بيك” الاستسلام ووافق” البيك” على شرط إعطاء الأمان لأهل المدينة، ماذا فعل نابليون عندما دخل المدينة؟ أول شيء فعله كان أن أعدم حاكم المدينة، وفي أوّل يوم العيد قتل أربعة آلاف جندي عثماني حامية المدينة، بخناجر بنادق جنوده، والحجّة هي توفير الرصاص، وتوفير الطعام، علماً أنّه استولى على كلِّ الغلال وحتّى المواشي لم تسلم من نهبه٠
ورغم حضور هذه المجزرة في الثقافة الشفاهية الفلسطينية، وروايتها بأشكال مختلفة، فقد خضعت هذه الحادثة لتأويلات متعدِّدة، ومن أخطرها أنّ الحرب شُنَّت على العثمانيين، ولم يكن الهدف من هذه المجزرة الفلسطينيين، والغريب في الأمر أن النخب العربية والفلسطينية تغنّت بحضارة نابليون ومن أبرز مظاهر الحضارة جلب المطبعة والخبز الفرنسي لمصر، علما أن هذه المعلومة غير دقيقة، أي دخول أوّل مطبعة للعالم العربي – مصر، فأوّل مطبعة كانت في حلب، ومع ذلك كان هناك إصرار عجيب أن نابليون هو أوّل من أحضر المطبعة من قِبل “النخب العربية” المتهرئة، فليس غربياً الآن ما تقوم به بعض تلك النخب العفنة لتبرير ما تفعله دولة الاحتلال الإسرائيلي في شنّها حرب إبادة على أهلنا في غزّة!!!
أمّا عن الضحايا فلا يعرفون في أغلب الأحيان إلاّ الصحيات والجراح والآلام٠
وكلّ شيء يتغيّر مع ” السؤال”: لماذا ُتسلب عقولنا أمام الهاوية اللاإنسانية؟ ألا يكفي أن يوجد مؤرِّخ صلب وعنيد ومصرّ على القيام بمهمّته كإنسان لينتزعنا من دوختنا؛ “السؤال” ليس لا إنسانيا، إنّها بكل بساطة جريمة دنيئة وسافلة نفّذها ” كتاّب” ضد تاريخهم الإنساني الاجتماعي، بفلسفة النسيان.
وهذا التعذيب الذي يمكن تعريفه بـ”النسيان”، وإن كان منكرا، وبشيء من الرخاوة أحيانًا، إلاّ إنّه كان يُطبَّق بانتظام خلف واجهة المسكوت عنه. ويمكن تعريف التعذيب على أنّه مؤسّسة نصف سرّية. وهل أسباب التعذيب واحدة في كلّ مكان؟ بالتأكيد “لا”! إلاّ أنّ التعذيب يعبّر عن نفس ضائقة وضائعة أيضًا في كلّ مكان دخله الاستعمار، فلنكنِّس أمام عتبتنا ولنحاول فهم ما أصابنا، نحن الفلسطينيين.
ففي عام 1923 – 1948 أقامت سلطات “الانتداب البريطاني” على فلسطين حكومة أطلقت عليها (حكومة فلسطين الانتدابية)، وتمّ تشكيل حكومة فلسطين وعاصمتها القدس ويديرها الاحتلال البريطاني وتحت مسماها صدرت عملة فلسطينية بثلاث لغات عربي وعبري وانجليزي٠ وأسّست شرطة فلسطينية ومطار اللّد وإذاعة فلسطينية طبعا، ولم ينل الفلسطينيون غير التسميات، في حين كانت الوكالة اليهودية تحظى برعاية بريطانية وتعمل كحكومة داخل الحكومة البريطانية.
وهذا الصمت عن هذه الحقبة التاريخية في تاريخنا الفلسطيني، ألاّ يعتبر خوف من ذكر الحقيقة، وهذه الأخطار التي لا ترى أبدًا في عقول ” كتابنا” وهي دائما موجودة، كل هذا لا يمكن أن يقدم لنا الشرح الشافي لعناد الضحايا الذين هم نحن عندما سقطت فلسطين عام 1948، بدأنا نتغنى بأمجاد حكومة الانتداب ونتباهى بها أمام الشعوب التي استضافتنا، وكأنّنا أبناء البطة “البيضاء”، وساعد على هذا التعالي “الكتّاب” الذين جاءوا لاجئين ومجدوا حقبة حكومة الانتداب حتّى الخساسة، وفي النهاية هذه الكراهية التي تولّدت لِجُلّ الشخصية الفلسطينية التي استولت عليهم دون رضاهم أو وعيهم صقلت شخصيتهم.
إذا وقع التباهي، فهذه هي القاعدة، لقد وقع التباهي دائما من أجل من مصالح جماعية لشرائح فلسطينية محدّدة تحالفت مع الاستعمار البريطاني وفيما بعد مع الدول التي استضافتهم. ولكن الرهان في النسيان، تلك المباراة الغريبة، تبدو شبه جذرية، لأنّ الجلاّد يتبارى مع الضحية من أجل عنوان النسيان، كما حدث عند سقوط فلسطين عام 1948؛ إنّ عدم نقد الذات ونقد الآخر العربي بممارسة علمية موضوعية، الأمر الذي أوجد خللا في توسّع مجال الاختلاف، وتوفّر إمكانية تتجاوز بها الثقافة العربية الحديثة ضرورة التماثل والتطابق التي تعيق حركتها، وتبطل فعاليتها، بعد أن انقسمت إلى تيارات متضادّة لا تتشارك في المفاهيم والتصوّرات الأساسية، وكلّ هذا أسهم في إضفاء نوع من العدميّة على ثقافة تعجز عن مناقشة إشكالياتها في قضية فلسطين حتّى الآن.
الشخصية الفلسطينية المعاصرة 5
سليم النجار
الكتب الصغيرة جدّاً، المكتوبة بحركة واحدة عن النكبة الفلسطينية التي ملأت الفضاء العربي، في زمن الهزيمة العربية منذ الثلث الأوّل من القرن الماضي، مثلها مثل الكبيرة التي هي ثمرة الهزيمة الحاصلة الآن، وما يتعرّض له شعبنا الفلسطيني من حرب إبادة في غزة.
هذه الكتب القديمة والحديثة بأغلفتها الممزّقة بأجساد أطفالنا في النكبة الأولى، وحرب الإبادة الثانية، تتباهى بحواشيها الحمراء والخضراء والصفراء، وكأنّنا أمام لافتة عُلِّقت “للبيع” على واجهة التاريخ العربي المعاصر.
وكنتُ دائماً أنظرُ بإمعان إلى الحروف الزرقاء التي شاهدتها أوّل مرّة في بحر حيفا فوق الورق البنيّ الفاتح..
لماذا لا أكون شاهدًا حيّا على نكبتنا وعلى حرب الإبادة..
بدلاً من انتظار من أحبَّ صفَّ الكتب التي تتحدّث عن فلسطين وكأنّ قدرها الحديث عنها بصيغة المفرد، وأقرأ أوراق الصفحات التي تنقلبُ، وأحياناً عنها ننقلبُ.
خاصّة إذا ما اختير الورقُ جيِّداً، يُستهلكُ مع الكلمات، وتتوالى الصفحاتُ بشراهة.
يا لها فكرة غير جيدة أنْ تنتقد هذا الكم الهائل من الكتب التي تناولت (القضية الفلسطينية)، لأنّه في حقيقة الأمر، لم تؤثر في الشخصية الفلسطينية المعاصرة، التي حملت هزيمتها بكلّ مرارة وخذلان، لتجد أمامها طابورا من (الأساتذة) الذين وجدوا سلعة تجارية، يتاجرون بها، من خلال كلماتهم كأنّها تشبه علب السردين، التي أسيئت معاملتُها مثلما هو في ساعة الذروة داخل ساحة الحناطير في حيفا عندما تمّ زجّ سكانها من قبل العصابات الصهيونية في “قلاّبات” وقذفهم إلى عكا، تمهيدًا لتطهيرها من الفلسطينيين، هذا الوقت كان عام 1948، وكانت الشخصية الفلسطينية غير مصدَّقة وتعيش في حالة ذهول. وهذا الحال تكرّر في حرب الإبادة على غزّة، والفارق بينهما أنّ الحالة الأولى كانت ممارسة عصابات صهيونية، أمّا الحالة الثانية فقد كانت “دولة إسرائيل”، وفي كلا الحالتين فاعل صهيوني، والمفعول به فلسطيني، ما زال حاله مُشردا ولاجئا، وينحاز للرواية الشفاهية التي تؤكِّد على أنّه تعرّض للغدر العربي الرسمي منه والشعبي، وإنّه كان ضحية، ورغم التضحيات الكبيرة التي قدّمها، إلا أنّ هذه التضحيات راحت تعيش في أوراق الكتب المرصوصة على رفوف المكتبات.
وكأنّ هذه الكتب كُتبت لمتطفِّلٍ أراد أنْ يتلصَّص على أعلى غلاف هذه الكتب، ليستنتج منها أنّ الفلسطيني هو الذي باع أرضه، وانهار أمام عدّوه، هذه الصيغة المفردة، هي -في حقيقة الأمر- التي جعلت الشخصية الفلسطينية تتأثّر بردّة فعل قاسية اتجاه العرب، وإنْ كانت تحمل في طيّاتها بعض النظرة المعقولية، إلاّ أنّها في الوقت ذاته تخفي حقيقة مُرّة وهي أنّنا نتحمّل جزءا من هذه الهزيمة، عندما خضعنا للرواية الشفاهية، التي صوّرتنا على أنّنا ضحية فقط، ولم نتطرق للأسباب التي ساهمت في هزيمتنا على أرضنا، ولعلّ من أخطر وأهم الأسباب الموضوعية أنّ الصراع بين العائلات الفلسطينية لكسب الزعامة على شعبنا الفلسطيني، والتي قدّمت قرابين، سواء للانتداب البريطاني أو للدكاكين السياسية العربية، سبب أساس والذي أخذ شكل حذاء دائم السواد.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!