إنقضّى الصّيف ولملمَ أنسامه اللطيفة ورحل ، وأنقطع الغبار الأصفر الذي كان يتناثر عاليّاً في الفضاء الرَّحب وتثيره شواعيب الرَّجال الذينَ يذرّون القمح ويفصلون عنه التبن مونةً للشتاء وطعاماً للعائلة الكبيرة التي ستقوم النساء فيها بعجن الطحين وتجهيز الخبز في الطوابين التي لا ينقطعُ دُخّانها وفوق الصّاج الحديدي الذي لونّه الرماد الأسود للحطب اليابس .
كان يوم الجمعة احتّفالياً استثـّنائياً حيث يذهب الرجال الى المسجد العثمّاني القديم وهم يركبون الدّواب ليصّلو الجمعة ويقومون بربطها أمام الساحة الخارجية للمسجدِ الذي كان مبنياً من الطيّن والحّجر البارز والقرميد الأحمر .
ونذهبُ نحن الأولاد بشوال القمح المشهور بالخط الأحمر إلى بابور الطحين العتيق الذي نسمع ضربات المـَدك أو البوري الضخم الخارجي ، تتناهي إلى أسماعنا من مسافاتٍ بعيدة ، كنـّا نذهبُ باكراً لنأخذ دورنا ونراقب هذا المشهد الفريد ، حيث يقوم الطحّان بحملِ كيس القمح ووضعه في ( المحقان ) أو القمع الكبير ، ليخرج الطحين على الأقشطة الجلدّية حارّاً ناصع البياض ، وبعدها يحمل كيس الطحين ويربط جيدا على ظهر الحمام الذي كان يُملكه جدَّي ، ثمّ نركب فوق الطحنة ونعود لحوش البيت حيث تقوم نساء العائلة بتنزيل الكيس عن ظهر الدّابة ليقمن بعد ذلك بتحضير العجين وإضافة الخميرة ليكون جاهزاً في الصباح لتجهيز الخبز السّاخن اللذيذ .
لقد تباعد الزمان وتناثرت أيـَّامه ، ولكنّ هذا المكان الذي رافق أيّام الطفولة لم يغب من مدارك الذاكرّة ظلّ صوته الرتيب المتصاعد والنـّازل يَدقُّ في أعماق اللاّوعي وأقصّى نقطةٍ في الوجدان المنبهر لأنهّ أرتبط بسنوات التكوّين الأولى .
وما زلت حَتَّىْ الآن أتذّكر المشهد وعشرات الرّجال الذين يجلسون أمام البابور يتحدثون بصوت مرتفع ويتناقشون في شؤون الحياة وآخر أخبار القريّة ، ويدّخنون وهم ينتظرون دورهم ليطحّنو قمحهم ثم يعودون قبلَ غياب الشمس .
حيث أنّ الكثير منهم كان يأتي من امكنة بعيدّة ومن القرى المجاوّرة ، وكانت تصطفُ مربوطةً مئات الدواب والحمير في الحلقات الحجرية التي أمام مبنى بابور الطحّين .
آه ٍيا ذكرى الصَّبا الجميل والطفولة العذبة النقيّة التي تلوح تفاصيلها للعيان وتجيشُ بالنفس كلما مررت ببابور الطفولة القديم الذي هجره النّاس ، وتغيّرت الدنيا عليه وتوقفت عجلاته الضخمة التي افترسها الصدّأ وأقشطته الجلدية التي تراخت ، وصمّت مدّكة الأسود الضخم عن الحركة والصوت والإيقّاع والنبّض بمادة العيش والحيّاة ، الخبز الأسمر الذي لا يستغني عنه البشر ، لأنّ الطحين إذا كان موجوداً في البيت فأهله لن يجوعوا ، هذه الحكمة التي كنا نسمعها من أهلنا وسكان قريتنا ونحَنْ ما زلنا صغاراً .
هذه التفاصيل الغائبة في بوح الأيام المجنونة لن تغادر أرّواحنا وإحساسنا بتلك الرّائحة العالقة في حواس الرأس ، وبذلك الصوت الهادر الصاخب بإيقاعه المنتظم ، لأنّ الزمّن تغيّر والحياة لم تعَد هي الحياة ولكنّ المرهفين ظلّوا يخزّنون في وجدانهم تلك الذكريات العذبة عن هذا المكان الذي ظل شامخاً يتحدّى عوامل الفناء والإندثار ورغم ذلك الهجر القاسي لرفيق الصّبا الذي شاخ وتوقفت عجلاته الحديدية عن الحياة ، ولم يعّد يذّكرهُ إلا الجيل الذي كان يزوره في أيام مجدّهِ وعزّهِ وزمانّهِ الذهبي .
أو كان من الذين يذهبون لأستذكار أماكن الصّبا التي أسدلت عليها الأيّام ستائر النسيان الشاحبة .