كتب. د. تيسير السعيدين. الإنساني واليومي في كتاب ( تجليات عشقية )

لآفاق حرة.

الإنساني واليومي في كتاب ( تجليات عشقية )
للكاتب فراس بني هاني

بقلم الدكتور د. تيسير السعيدين

“تجليات عشقية” للكاتب فراس بني هاني، مجموعة من النصوص الأدبية التي من شأنها أن تأخذ قارئها في نزهة لطيفة عبر الكثير من المواقف واللطائف الحياتية بأسلوب رشيق وخفيف الظل، حيث يجد المطالع في هذا الكتاب نفسه ينتقل من نص إلى نص دون أن يشعر بفاصل زمني بينها، مع وجود الفاصل الموضوعي أحيانا، وذلك مما يحسب للكاتب وأسلوبه في طريقة تناول موضوعاته وعرضها دون إطالة ولا تعقيد ولا فلسفة، وإن كان في العنوان الذي وضعه المؤلف “تجليات” ما يوهم القارئ بأنه سيدخل غمار تأملات سابرة الغور، لا سيما وهو يقرنها بكلمة “عشقية” فمسمّى “التجليات العشقية” مسمى لا يكاد ينفصل عن العوالم الصوفية وما تنطوي عليه من الإغراق في التأمل والتفكير والشطحات الميتافيزيقية، وفي الحقيقة أن هذا العنوان الشيق للكتاب جاء من باب السهل الممتنع، فعلى الرغم من بعد النصوص داخل الكتاب عن التصوف وعوالمه، وعن التفكير في الماورائيات إلا أنها كانت تجليات تراءت له من مواقف يوميّة وتفاصيل حياتية تمر بنا ونعايشها، ولكن القليل منا من يقف عندها وينتبه إلى محمولاتها الإنسانية الجمّة، وإن كان ذاك الوقوف سريعا وخاطفا، إلا أنه يكفي منه أن قدح شرارة التفكير في أذهاننا ونفوسنا، وجعلنا نعيش اللحظة التي نقضيها في متابعته بكامل أحاسيسنا.
إن كتاب “تجليات عشقية” فرصة جميلة للقاء الإنسان المسحوق تحت عجلة الحياة وانشغالاتها بذاته وبذكرياته وبقضاياه وتفاصيله اليومية العادية، ومن ثم فهي دعوة له لأن يستمزجها ويستخلص منها العبر والدروس. وفي هذا المقام كان وقوفي في كتاب الصديق فراس تحت عنوان “الإنساني واليومي في كتاب تجليات عشقية”.
ولعل من أبرز القضايا التي وقفت عليها في هذا الكتاب ما استطعت تلخيصه في ثلاثٍ:
القضية الأولى هي المرأة وما لها من مكانة لدى المؤلف في مؤلفه هذا، ولدينا جميعا في مؤلفنا الأكبر ألا وهو الحياة.
القضية الثانية هي وهج الذكريات وما يشيعه فينا في كثير من الأحيان من ازدواجية الشعور بين حنين وسخط.
القضية الثالثة تلك التفاصيل والمشاهدات اليومية والرسائل الوعظية -إن صح التعبير- التي أرسلها الكاتب إلينا بشكل خاطف وسريع، عبر مشاهداته وتفاصيل يومه .
أما المرأة فمن نافلة القول أن نتحدث عن حضورها الكبير في الآداب الإنسانية عامة، ناهيك عن الأدب العربي قديمه وحديثه، وليس كاتبنا وما جاء به عن المرأة في تجلياته هذه بجديد على المستوى الموضوعي، وإنما هو استمرار لمسيرة طويلة من استحضار المرأة في النتاجات الفكرية والأدبية منذ الشعر الجاهلي وشعرائه، ومرورا بالشعر الإسلامي والعصور اللاحقة وشعرائها ، وانتهاء بشعر العصر الحديث وشعرائه وأدبائه عامة : قاصين وروائيين وغيرهم. وفي تجليات بني هاني حضرت المرأة منذ الصفحة الأولى؛ صفحة الإهداء الذي خص زوجته به، وبكل النصوص العشقية التي تضمنها الكتاب. فالمرأة الزوجة هي من حظيت بتجلياته العشقية، وكلماته الرقيقة المعبرة عن مدى حفظه لودها وعشرتها، كيف لا وهي الزوجة والحبيبة ورفيقة الدرب والشريكة في الحلوة والمرة ؟! ولعل ما يثير الاهتمام أكثر ليس أن يهدي الكاتب زوجته كتابه، بل أن يؤكد على أن النصوص المكتوبة في العشق هي نصوص مقصورة عليها، وهذا ما يثير لدينا ربما بعض التساؤلات، عما إذا كان هذا الفعل من الكاتب من قبيل شدة الإخلاص والبر بزوجته، أم هو من قبيل نفي ما يمكن أن يتوهمه القارئ لتجلياته العشقية من أن الكاتب ذو تجارب عشقية متعددة، والحقيقة أنني لا أناقش هذا الأمر من قبيل المشاكسة والدعابة، لكني أحيل ذلك إلى واحد من النصوص في هذا الكتاب، يعرض فيها الكاتب قضية اجتماعية مهمة نواجهها جميعا في أيامنا هذه، ألا وهي شخصنة النص كما سماها كاتبنا، وعمد إلى استنكار أن يفسر الناس كل ما يكتب على صفحات التواصل الاجتماعي تفسيرا شخصانيا، يربط النص أيا كان بتجربة شخصية لكاتبه، وهو أمر فعلي وواقع، ولربما حرم الكثير منا من إبداعات جميلة كتمناها في نفوسنا ولم نعلنها للملأ خوفا من “شخصنة النص”.
وأما المرأة الابنة فلم ينسها الكاتب من تجلياته، فخصها في بعض خواطره، فكتب لابنتيه ( ياسمينة) تحت عنوان “عطر الدار” و( نورا) تحت عنوان “ضي العيون”، كما خص أبناءه في بعض الخواطر الأخرى وهي “مهج القلب” و “أبنائي”. كيف لا ولسان الحال قول الشاعر :
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض
إذن نحن أمام نصوص خاصة بالزوجة والبنات والبنين، وأمام أسرة لا يخفى عنا دفؤها وترابطها، كما لا تخفى عنا القيمة العظيمة التي يوليها الكاتب للأسرة بكل أفرادها، وليس هذا بغريب على أحد، فالأسرة مصدر الراحة والطمأنينة، ولربما هي أيضا الملهمة لكاتبنا وشريكته في الإبداع. ولا شك فيما ذهبنا إليه بعد أن نضيف إلى نصوص الأسرة تلك النصوص الخاصة بالأم والأب (الجد والجدة) لنجد أنفسنا أمام كاتب شديد الحساسية تجاه من يحب، وتجاه أسرته الكبيرة، ولعله نموذج يحتذى في البر والعرفان.
وأما القضية الإنسانية الثانية التي وقفت عليها في هذا الكتاب هي قضية “وهج الذكريات”، وللذكريات وهج قوي يتلظى في حنايانا جميعا، فمن منا لا يعود إلى ماضيه في لحظة ما؟! ومن منا لا تصيبه غصة الحنين إلى ذلك الماضي وتفاصيله من أحداث وأماكن وأشخاص؟! لكن هذه الـ(نوستالجيا) أو الحنين إلى الماضي التي عصفت بكاتبنا في مؤلفه هذا تضعنا أمام مشاعر مزدوجة ولربما متناقضة، فهل كان مشتاقا وهو يتحدث في بعض نصوصه عن ذكرياته مع معلميه في مراحله الدراسية الأولى؟ أم كان متألما لذلك الأثر السلبي الذي تركه هؤلاء المعلمون في نفسه من القمع والإحباط والضرب؟ أم أنه كان مثمنا لتلك القسوة التي واجهها والتي آتت أكلها لاحقا في مراحل متقدمة، كما نتداول اليوم فيما بيننا بأن أسلوب التدريس القديم هو أجدى نفعا من الأساليب المتبعة الآن، على رغم قسوة القديم ومرونة ولين الحديث. وفي الحقيقة فإن كاتبنا في مثل هذه النصوص على توثيق مرحلة تاريخية مر بها عامة ذلك الجيل من حيث أسلوب التعليم وشكله وآلياته من جهة، ومن جهة أخرى عرض قضية تربوية مهمة ركزت عليها الكثير من النظريات التربوية الحديثة فيما يتعلق بالأثر النفسي الكبير الذي يتركه المعلم في شخصية طلابه، وإثارة دافعيتهم للتعلم أو العكس. وإلى جانب ذلك نرى الكاتب يسترجع ذكرياته الحميمة مع المكتبة الوحيدة في حيه، والتي كان يرتادها بكثير من الحنين والعرفان، من خلال استحضاره لأثر تلك المكتبة في شغفه وتعلقه بالقراءة، ودورها في تكوينه الفكري واللغوي، واتساع عوالم الخيال عنده، والإقبال على ممارسة الكتابة. والناظر في أسلوب الكاتب في استرجاع ذكرياته يجد هذه النصوص وكأنها جزء من سيرة ذاتية يسردها بأسلوب قصصي رشيق ولطيف وقريب إلى القارئ ويلامس شغاف قلبه وفكره معا.
إن موضوعة الـ”نوستالجيا” حاضرة في الوجدان الإنساني على مر العصور، إذ يلتقي فيها الإنسان مع ذاته في طفولتها أو في عهد براءتها وطهارتها، حيث يشكل الماضي البعيد لكل منا مرحلة الألق والعنفوان والإقبال على الحياة، كما يشكل عهد البساطة بعيدا عن تعقيدات الحاضر ومشاكله، لذلك فإننا نجد أنفسنا في غمرة الحنين متماهين مع النصوص التي تتحدث عن الماضي أو ما يحلو لنا تسميته بالزمن الجميل، وفي نصوص بني هاني الشيقة فضاءات ممتدة للقارئ، تتيح له السفر عبر ذكريات تجمعه مع الكاتب في إطار زمني واجتماعي مشترك .
أما القضية الثالثة التي استخلصتها من الكتاب فهي تلك الوقفات الخاطفة مع تفاصيلنا اليومية التي تمر بنا ولا نعيرها اهتماما في كثير من الأحيان، لكن كاتبنا يقف إزاءها ويتأملها، ويسلط الضوء عليها، على الأقل على مستواه الشخصي، حتى إذا ما قرأناها نحن وتوقفنا عندها، وجدنا تفاصيل تمر بنا أيضا، ونمر عنها دون أن نلقي لها بالا، فضياع الورقة التي نكتب فيها بلمح البصر، وقضاؤنا وقتا في البحث عنها بينما هي موجودة بالقرب منا دون أن ننتبه، هذا الأمر نعانيه جميعنا لكنا لا نقف عنده، ولم يخطر لنا كتابة نص أدبي فيه كما فعل الكاتب في كتابه هذا، وإن كان الكاتب بتلك المواقف سريعا في كتابه، إلا أن ذلك أثار فينا الكثير من الراحة، لا سيما وهو يلخّص قصة تكاد تكون يومية في لحظتها، ثم سرعان ما ننساها لظننا أنها ليست أمرا يعطل سيرنا وأنّ متابعة أشغالنا أهم.
في هذا الكتاب كثير من التفاصيل اليومية المكتوبة بأسلوب شيق تتضمن ما أستطيع تسميتها بالرسائل الوعظية أو الإرشادية، التي يوجهها الكاتب للمتلقي عبر نصوص قصيرة، تصدر عن تجارب ومشاهدات حياتية يومية له. ولا شك أن ما يكون ذا مرجعية واقعية ملموسة ومشاهدة، هو أكثر قربا من الناس وأكثر مساسا بقضاياهم الحثيثة، لذلك نجد أنفسنا أمام نصوص عالية المصداقية لا مجال فيها للمبالغات والشطحات الخيالية، ولكنها في الوقت نفسه، وعلى واقعيتها نصوص ذات أسلوب أدبي متميز بالرشاقة واللباقة واللغة العالية المسبوكة بإتقان وتمكن، وذلك عندما تحدث في نص “شخصنة النص على فيسبوك”، فهو نص شديد الملامسة لتجارب الكثيرين منا عند نشر أي مقولة أو حكمة أو قول أو مثل، لربما يكون أعجبك موضوعه أو لغته، أو مناسبته، ولربما يكون أضحكك رغم سوداويته، أو أحزنك رغم لطافته دون أن يتعلق كل ذلك بقضية شخصية تخصك، لكن المتابعين والمعلقين يأخذون منشورك على هذا المحمل الشخصي، ويحملونه ما لا يحتمل، يقول المؤلف: “وإذا كان المحتوى يتكلم عن عثرات الأيام أو العجز أو قلة الوفاء، تجدهم يبادرونك بفزعة على شاكلة “مين اللي مزعلك؟”
ولعل الأسلوب الساخر -إذا صح لنا القول- الذي لمسناه في كثير من نصوص الكتاب، هو من أجمل وأجدى طرق النقد الاجتماعي، الذي يعالج ما يمر به المجتمع وأناسه من مشاهدات وحوادث يومية بأسلوب خفيف ولطيف، مضحك مبك في آن، وهو ليس جديدا في أدبنا العربي القديم والمعاصر على حد سواء، غير أن كاتبنا لا يتعمق فيه، ولو تعمق لكان ناجحا ومتميزا في ظني.
وبالمحصلة فإننا أمام كتاب قيّم يجمع بين موضوعات جميلة وقريبة من اهتمام الإنسان، عرضها الكاتب عبر نصوص تتميز بالقصر إلى حد ما، وبأسلوب سهل ومبسط، ولغة شفافة ورشيقة، لا سيما تلك النصوص المكتوبة بلغة شعرية مليئة بالإيقاع والقافية والسلاسة، إننا أمام كتاب خفيف الوطء على القارئ، فلا يكاد يبدأ بقراءة نص حتى يجد نفسه بعد قليل وقد قطع قدما صفحات عديدة دون أن يشعر بأي ثقل في ذلك، ودون أن يحتاج إلى إعمال كبير لعقله وفكره، ودون إجهاد لعينه الناظرة في البياض والسواد الذي وزعه الكاتب على الصفحة بخبرة القارئ العارف بما يريح العين القارئة والنفس الباحثة عن الخفة.
وأخيرا، أرجو لكاتبنا الصديق كل التوفيق والسداد، كما آمل منه أن يمضي في إتحافنا بمزيد من النتاجات المقبلة، مع وافر المحبة والتقدير.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!