الحلقة (2)
من هم النخبة؟
كلمة “النخبة” تشبه البدلة الرسمية: لا تُرتدى إلا في المناسبات.
تُقال بأناقة، تُكرَّر بإجلال، وتُمنَح غالبًا بلا مساءلة.
لكن خلف هذه الواجهة الأنيقة، هناك سؤال واحد يخشاه الجميع:
من هم النخبة أصلًا؟ ومن منحهم هذا اللقب؟ ولماذا نصدّق أنهم الأجدر؟
هل النخبة موقع فكري… أم امتياز اجتماعي؟
في أصلها، النخبة كانت تعني: من يمتلك حسًا نقديًا، ووعيًا متقدمًا، واستعدادًا لتحمّل مسؤولية التغيير.
لكن هذا التعريف لم يصمد طويلًا. سرعان ما تحوّلت النخبة إلا من قلة قليلة، إلى “بطاقة عبور” إلى طبقة فكرية مغلقة.
أصبح النخبوي هو من يتقن اللغة، لا من يطرح الأسئلة. من يكتب بلغة صعبة، لا من يلامس الواقع.
من يتلقى الدعوات، لا من يواجه الناس.
النخبة التي صنعتها الشاشات:
جزء كبير من النخبة في مجتمعاتنا لم تصنعهم المعرفة، بل الإعلام.
ضيوف دائمون، ألسنة حادة، لغة متعالية، أسلوب استعراضي… لكن لا فكرة تُفجّر الواقع.
هؤلاء يعرفون كيف يُقدَّمون، لا كيف يُربكون.
يعرفون ماذا يقال، لا ما يجب أن يُقال.
يتقنون الرقص على حدود المسموح، دون أن يعبروا إلى الممنوع الحقيقي.
النخبة التي صنعتها السوشيال ميديا:
اليوم لم تعد النخبة تحتاج إلى كتب أو شاشات.
يكفي أن تمتلك آلاف المتابعين، أن تُتقن “التصميم الجيد”، أن تقول ما يُرضي جمهورك دون مساءلة.
السوشيال ميديا خلقت نخبة جديدة: نخبة اللاشيء.
خطاب شكلي، عبارات محفوظة، نقد سطحي، ومقاطع ممنتجة بعناية، لكنها فارغة من المضمون.
وهنا الخرافة تتجدد: نصدّق أن الأكثر متابعة هو الأصدق… بينما هو غالبًا الأكثر دهاء في دغدغة الحاجة إلى التمرّد المؤجل.
النخبة التي تمارس الخرافة باسم العقل:
لا فرق بين من يعلّق خرزة زرقاء خوفًا من الحسد، ومن يعلّق كتاب فوكو في كل منشور ليبدو عميقًا.
الأول يهرب من الواقع بخرافة شعبية، والثاني يهرب منه بخرافة نخبوية مغلفة بمصطلحات.
الاثنان يتهرّبان من الحقيقة.
الاثنان يخشون المواجهة.
الاثنان يعيدون إنتاج الوهم… بطرق مختلفة.
النخبة الوظيفية: أدوات ناعمة للحفاظ على الوضع القائم
كثير من النخب ليست في صدام مع السلطة، بل في تحالف ناعم معها.
يُقنِعون الجمهور بأنهم معارضون، بينما لا يعارضون إلا ما هو خارج الهامش المسموح.
يُروّجون للحداثة، لكنهم يعيشون في قوالب قديمة.
يتحدثون عن الحرية، لكنهم يخشون الخروج عن الإجماع.
إنهم جزء من آلة الوهم… يقدمون صورة “التغيير” دون أن يقتربوا من تغييره فعلًا.
من لم يُمتحن بالخذلان، لا يحق له أن يتحدث عن الناس
النخبة الحقيقية ليست مَن لم تُقصَ، بل من صمدت رغم الإقصاء.
ليست من يُصفّق لها جمهور، بل من تخسره أحيانًا لأنها قالت ما لا يُقال.
من لم يشعر بالوحدة، بالخذلان، بالخوف، بالعزلة… لا يحق له أن يتحدث عن “وعي الناس”.
لأن من يتحدث عن الناس من الخارج، لا يختلف عن الطبيب الذي يشخّص مرضًا لم يقترب منه قط.
من يستحق أن يكون من النخبة؟
ليس من صعد المنصة، بل من نزل إلى الأرض وسط الناس وللناس.
ليس من راكم المصطلحات، بل من خاض التجربة.
ليس من بنى جمهورًا، بل من بنى سؤالًا حقيقيًا.
النخبة الحقيقية لا تُمنح… بل تُنتزع بثمن: نقد الذات، مواجهة الخوف، الانفتاح على الألم، والنزول من البرج إلى الشارع.
في النهاية:
ربما لا نحتاج إلى نخبة تقودنا.
بل إلى أفراد يجرؤون على طرح الأسئلة.
إلى مثقفين لا يكتبون للعرض، بل للقلق.
إلى مفكرين لا يخشون فقدان الهالة.
النخبة ليست من يعرف أكثر… بل من يملك شجاعة أن يعرف أقل، ويبدأ من جديد مع الناس، لا من فوقهم.