قراءة في قصيدة للشّاعر التّونسي يوسف الهمّامي
مادونا عسكر/ لبنان
– النّصّ:
الغيمة الغامضة تسند
عبقها إلى صحراء غصن كسير
..
الأرض تتثاءب
بين ذراعين ووشم
..
بكاء الرّحيق يتعالى
في النّاي عبر الثقوب
..
الأخضر الغافي يخافت في الصّدر
الأسود العتيّ يغامر على اعتلائه
– القراءة:
يمكث الشّاعر بين الأرض والسّماء. يهتمّ لما فوق ويحمل أثقال الأرض. لكنّه بلغ مقاماً رفيعاً من الألم. فالاهتمام بالعلو كشف تفاصيل العمق.
الغيمة الغامضة/ رؤى الشّاعر الّتي تبلسم الضّعف الإنسانيّ وتداوي جرحه. إلّا أنّ الشّاعر يتألّم بصمت الشّعراء القدّيسين حاملاً حزن الكون في قلبه وبهجة العلا في آن. ليس الغموض هنا دليل التباس وإنّما دليل إعجاز الغيمة، وهي الحاملة الحياة تواجه الموت.
الغيمة الغامضة أو رؤى الشّاعر غطّت العالم. وهي أشبه بخيمة نُصبت من أجله ليتطلّع على هذا العالم من عمق شعره ويداوي بنور الشّعر آلام الإنسانيّة. (الغيمة الغامضة تسند // عبقها إلى صحراء غصن كسير). الغيمة المهيّأة للفيض تقابلها صحراء غصن كسير. وإن دلّ الغصن على أمر فهو يدل على ضعف ووهن وألم وظمأ وربّما فراغ أشبه بالموت أشارت إليه (الصّحراء). ولئن كانت الغيمة قد سندت عبقها إلى الظّمأ والألم والفراغ المحزن تبيّنت عين الشّاعر الحاضنة لهذا الألم/ الموت. لكنّ العين لا تملك ذراعين يحتضنان بل هي تحتوي بما ستفيض به من ماء. ولو تعمّق القارئ في المعنى المحتجب في قلب الشّاعر لوجده متألّماً حدّ فيض الدّمع المحتوي لا المشفق وحسب. ما يعني أنّ الشّاعر يحتوي الكون بالقوّة بالدّمع ويحتويه بالقوّة بعالمه الشّعريّ الرؤيويّ.
لكنّ الأرض مسلوبة الإرادة غير مبالية ولا تستجيب لهذا الاحتواء (الأرض تتثاءب// بين ذراعين ووشم). وما تكاسلها إلّا دلالة على الألم المكثّف الّذي سلب إرادتها فخارت قواها وباتت غير قادرة على المقاومة. والشّاعر المقيم في رؤاه مجروح في محبّته لهذا الكون، متألم في عمق إنسانيّته. إنّه ألم الوعي وألم الحبّ.
الوعي الممزوج بألم المعرفة والحبّ الفيض الّذي يغرق فيه الشّاعر ويهفو إلى إغراق الأرض به. وامتداداً للألم المعبّر عنه في السّطور السّابقة، يتوسّع الشّاعر في وصف حاله وما يسبغه عليه الألم فيدخل في محاكاة تثاقفيّة تفاعليّة مع جلال الدّين الرّومي وقصيدته (النّاي الحزين) وما كان فيه من حزن:
“أنصت إلى النّاي يحكي حكايته
ومن ألم الفراق يبث شكايته:
مذ قطعت من الغاب، والرّجال والنّساء لأنيني يبكون
أريد صدراً مِزَقاً مِزَقاً برَّحه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق..
فكلّ من قطع عن أصله
دائماً يحن إلى زمان وصله..
وهكذا غدوت مطرباً في المحافل
أشدو للسّعداء، وأنوح للبائسين
وكلٌّ يظنّ أنّني له رفيق…”
ويتماهى حزن ناي الرّومي مع حزن ناي الشّاعر، إلّا أنّ حزن الهمامي يشدو بكاء ورحيقاً، ما لم يطله الرّومي في قصيدته. فرحيق البكاء ممزوج ببهجة السّماء وألم الأرض و(الأخضر الغافي يخافت في الصّدر). الأخضر/ الحياة العائد إلى الشّاعر المتغلغل في ذاته يثق بالغيمة المسندة عبقها إلى صحراء الغصن الكسير حتّى وإن غامر الموت في تحدّي الحياة.
الأخضر الغافي يخافت في الصّدر
الأسود العتيّ يغامر على اعتلائه.
إنّ الدّخول إلى عمق الأشياء صعب، ولكنّ الأصعب منه ملامسة كنه الحقيقة والأشدّ صعوبة هو الإقامة هناك بوعي رؤيويّ يطلّ على العالم من خلال هذه النّافذة المفتوحة والمتّقدة من الرّؤى، هذا ما يعمل الهمّامي عليه دوماً في نصوصه الّتي تنحو نحو الباطن الإنسانيّ الغنيّ بالأفكار والمتشبّع بالبصيرة.