السّؤال في مواجهة الوحدة والشّكّ.
– النّصّ:
مفردٌ، كَإِلَهٍ يحاصِرُهُ البَردُ في عَرْشِه
مفردٌ، كمُصادفةٍ. مفردٌ
مفردٌ، وشريد…
لي شُكوكُ، وأسئلةٌ صعبةٌ، وهزائمُ
مُرعبةٌ. هذه ثروتي، في الوجود.
وأعرفُ: خاتِمتي أن أعود،
إلى ظُلمَةِ القَوْقَعَة !
– القراءة:
“اللّغة ابتكرت كلمة “الوحدة” لوصف ألم أن تكون وحيداً وابتكرت كلمة “العزلة” لتصف شرف أن تكون وحيداً. (بول تيليش). والشّاعر المكّي الهمامي يتمزّق بين ألم الوحدة وشرف العزلة في ما يشبه كتابة سيرة ذاتيّة تختصر الألم، ألم الشّاعر. ولئن كان الشّعر ينبع من الألم والتّجربة والاختبار ويصبّ في هيكليّة الجمال، ابتنى الشّاعر سيرته الذّاتيّة في عالم شعريّ. فنبتت بين السّطور رؤيته الفلسفيّة، وتجربته، واختباره الشّخصيّ مع ألم الوحدة، وقراره الوجوديّ بالانتهاء إلى شرف العزلة.
يحدّد لفظ (مفرد) الّذي يتكرّر أربع مرّات في القصيدة تقييم الشّاعر لذاته أوّلاً وموقعه من العالم ثانياً. ولعلّ هذا اللّفظ يترادف في القصيدة ومعنى الوحدة والتّفرّد والانعزال.
(مفردٌ، كَإِلَهٍ يحاصِرُهُ البَردُ في عَرْشِه)
تتجلّى المعاني متناقضة متنافرة في هذا البيت لترسم صورة عن عمق الألم في قلب الشّاعر. وكأنّي به يعبّر عن فقد لقدرة أو سلطة أو عجز (إله يحاصره البرد). وليس الشّاعر بصدد تأليه ذاته بل يأخذنا معنى لفظ (كإله) إلى أبعاد سلطويّة يتفرّد بها الشّاعر وحده ما لبثت أن تجمّدت (يحاصره البرد في عرشه). وما دلالة العرش إلّا رمز لخصوصيّة القدرة والسّلطة. ويقحم الشّاعر (البرد) ليكثّف معنى الألم، ألم الوحدة لينتقل المعنى من تفرّد كينونة الشّاعر إلى المعنى المراد منه الوحدة المؤلمة. ويتعمّق الألم ويتصاعد ليتماثل مع عدم الفهم الحقيقيّ لهذا الألم، أو التّأمّل بصمت له (مفردٌ، كمُصادفةٍ). وإن دلّت المصادفة على أمر عرضيّ تبيّن للقارئ تفرّد الشّاعر في ألمه الّذي يعتبره خاصّاً جدّاً أو لا مثيل له. ما جعله شريداً عن نفسه لا مأوى له. (مفردٌ// مفردٌ، وشريد…). فبقدر ما يشعر الشّاعر بالوحدة يغترب عن ذاته.
ترتبط السّطور الثّلاثة الأولى ببعضها لتشكّل بنية الشّاعر النّفسيّة المتخاصمة مع الواقع لتؤدّي إلى استفهام وجوديّ وحاجة لإدراك هذا الواقع، فيطرح ضمناً إشكاليّة كيف ولماذا. (لي شُكوكُ، وأسئلةٌ صعبةٌ) والصّعوبة تكمن في عدم القدرة على استيعاب وتفسير الواقع من جهة، وكيفيّة التّعامل معه من جهة أخرى. لكن يبدو أنّ هذه الشّكوك والأسئلة متجذّرة في الشّاعر، تحرّك صراع العقل مع الواقع الوجوديّ وتتلاقى مع الهزائم الّتي يصفها الشّاعر بالمرعبة. فيخرج المعنى عن إطار الواقع الآنيّ ليمتدّ إلى زمن يعرفه الشّاعر وحده ويتأمّله ويترافق معه. ما دلّت عليه عبارة (هذه ثروتي، في الوجود). فذاكرة الشّاعر مترعة بالاختبارات المؤلمة الّتي أدّت إلى الوحدة ونتجت عنها في آن لتشكّل غنىً على المستوى المعرفيّ والفلسفيّ، قد لا ينتشل الشّاعر من وحدته لكنّه يمنحه شرف العزلة.
وأعرفُ: خاتِمتي أن أعود،
إلى ظُلمَةِ القَوْقَعَة !
النّتيجة الحتميّة للألم الّذي يسبقه مخاض عسير فيخلص إلى الاختلاء بالّذات والعزلة عن المحيط لإمكانيّة رؤيته من زاوية أخرى تمكّن الشّاعر من الإجابة على الأسئلة الصّعبة وتلمّس الحقيقة لإزالة الشّكوك. لكنّ الخاتمة تشبه البداية أو عودة إلى نقطة الصّفر، فالشّاعر يدور في فلك التّساؤل الوجودي الّذي قد لا يفضي بالضّرورة إلى إجابات واضحة. وقد يؤدّي إلى مزيد من التّساؤلات والاستفهامات. ولعلّ ظلمة القوقعة دلّت ضمناً على عدم تصالح الشّاعر مع الواقع والنّفور منه ليتصادق مع العزلة وإن كانت مظلمة. وكأنّي به يقول مع إليف شفاق: “ولقد آمنتُ مُبكّرًا بحقيقة إنسانيّة واحدة شهدتُ رفض اﻵخرين لها دونَ جدوى: الوحدةُ جُزءٌ مُلازمٌ لكينونة اﻹنسان.”
(*)ديوان: إثم البداية، تونس، 2010، ص. 20