إذا كانت الكتابة تعبيراً عن الذّات فيحتاج هذا التّعبير إصغاء للصّوت الدّاخليّ الّذي يودّ التّحرّر من ضجيج الدّاخل، حتّى يؤثّر في القارئ ويعبّر عنه. وبقدر ما يصغي الكاتب إلى هذا الصّوت ينطلق في رحاب الإبداع، وتتفجّر كنوزه الكامنة في الأعماق، تلك الّتي تؤسّس لتاريخه الإبداعيّ ولشخصه كمرجع أدبيّ.
لا يمكن لإنسان متخبّط في ضجيج العالم وضجيج نفسه أن يصبح كاتباً ويبدع. ذاك ما يتلمّسه القارئ اليوم في أغلب الكتابات الّتي يقرأها الّتي تشبه عصرنا. فنلاحظ أنّ بعض الأعمال المسّماة أدبيّة ليست سوى خربشات فوضويّة تتمركز حول البوح عن المشاعر السّطحيّة، أو حول ما يتمّ نقله عن الواقع بسخافة مفرطة، أم إنّ الكاتب يكتب من فراغ فيأتي العمل فارغاً هشّاً. والكتابة من فراغ دليل انغماس في ضوضاء العالم من جهة. ومن جهة أخرى، سطوة الأنا على الكاتب تعيق مسيرته نحو العمق، فيكون هو المحور لا الفكرة المراد التّعبير عنها وتفكيكها لتتجسّد جمالاً.
ليس الكاتب لنفسه، بل للإبداع المعطى له بنعمة خاصّة، وبالتّالي فهو خادم هذا الإبداع. لا يحتكره لإبراز أناه، وإنّما للارتقاء بها. ولا يحوّلها إلى أداة تترجم انفعالات تؤثّر في القارئ آنياً، تدغدغ مشاعره إلى حين ثمّ تندثر باندثار الوقت. إن وُجد الإبداع فليخلق تاريخاً جديداً، يتجدّد بحضور الكاتب. وإن كانت الكتابة لا تحفر عميقاً في النّفوس فلأنّها تخرج من فراغ، لا من صمت عظيم وسلام حقيقيّ يمتلك كيان الكاتب.
الصّمت والسّلام سمتان يصير إليهما الكاتب بفعل الانعزال عن العالم. وقد لا يكون هذا الانعزال ظاهريّاً بقدر ما يكون داخليّاً. بمعنى آخر، الانسلاخ الضّمني عن الضّجيج المحيط بالكاتب، والابتعاد قدر الإمكان عن الظّاهر يسمح له بالتّوغّل في نور الحقيقية الّذي سيكشف له ما يودّ معرفته في ذاته أوّلاً ثمّ في الآخر ثمّ في الوجود ككلّ. ما يعوزه إلى الصّمت ليتمكّن من مراقبة أدقّ الأمور وتبيّن حقيقتها، ولا يأتي الصّمت والسّلام من فراغ، بل بفعل مجهود خاصّ واجتهاد في نبذ كلّ أمر لا يخدم إبداعه ويخلّد له.
العزلة قرار داخليّ من شأنه استثمار الإبداع بكلّيّته، ولن يكون الأمر سهلاً إذا ما تمحور الكاتب حول أناه ليجذب القارئ إلى شخصه. ولن يقوى على التأثير به دوماً إذا ما تمسّك بأناه وقدّمها على النّصّ. ذاك لا يعني أن يتخلّى الكاتب عن أناه، لأنّه بها يجسّد الجمال ومنها يستقي بهاء إبداعه، لكنّه بانعزاله عن السّطحيّات يتّحد بالنّصّ، وينصهر بالكلمة والمعنى حتّى يستحيل لغة يتحدّث بها القارئ.
لا بدّ للكاتب أن ينعزل كي يقوى على الإصغاء إلى صوته الدّاخلي ويتحرّر من أصوات كثيرة تصمّ أذنيه وتعطّل بصيرته. فيتعرّف على ذاته ويكتشف إبداعه بشكل مستمرّ. كلّ القوّة تكمن في تلك العزلة الدّاخليّة الّتي تفصله عن العالم وهو فيه؛ فينحصر عقله بالتّأمّل، بالدّاخل أوّلاً، ثمّ الخارج، ولا يتأثّر بالمجاملات والإطراءات؛ لأنّ هدفه البحث عن اليقين وملامسة الرّؤى.
ينعزل الكاتب فيرى بوضوح ما هو أبعد من الواقع، ويعاين ما هو فوق الوعي ليبلغ تفاصيل تائهة عن القارئ، فيشعل قلبه ويغرقه في كون من الجمال والمعرفة، وكلّما تفجّر الإبداع ازداد الخوف الإيجابيّ الّذي يشكّل رادعاً للغرور والتّباهي. كاتب لا يخاف من الجمال يتلاشى أمام حكمة القارئ ونقده، فالخوف خطوة تأنٍّ نحو المزيد من العزلة بهدف حرّيّة الإبداع وانطلاقه نحو مزيد من الجمال والدّهشة. بالخوف يصوغ الكاتب نصوصه ويثبت أمام رهبة القلم وقوّة اللّغة وعجزها في آن، وكأنّي به مع كلّ نصّ جديد يكتب المرّة الأولى والنّصّ الأوّل، حتّى يستحيل النّصّ الأخير مفتوحاً على المطلق.