آفاق حرة
بقلم بكر السباتين
تحظى القضية الفلسطينية باهتمام العالم على صعيد الجماهير خلافاً لسياسات بلدانها، فيما ينحسر الاهتمام العربي بها وخاصة أنها كانت تمثل وإلى وقت قريب لب الصراع العربي الإسرائيلي قبل تشابك الملفات الإقليمية وبعثرة أوراقها والتحالف مع دولة الاحتلال الإسرائيلي كحليف استراتيجي، بعد أن كان يمثل “العدو الذي يحتل فلسطين” في الوجدان العربي واستبداله بإيران بدعوى أنها تهدد أمن الخليج العربي، وفق متطلبات تنفيذ وتسويق صفقة القرن.. وتجلى ذلك في عدة صعد تنموية ( ثقافية واقتصادية وإعلامية) حيث وصل الحد بالمقاطعة الأوربية للبضائع القادمة من دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى أن تكبدها خسائر بمليارات الدولارات فيما عوضت تلك الدولة الطفيلية بعض خسائرها من خلال الانفتاح على الدول العربية المطبعة وكان آخرها العلاقة السرية بين الإمارات العربية (العبرية) وكيان الاحتلال الإسرائيلي التي طفت على السطح وتجلت بأبشع صورها من خلال صدور البيان المشترك حول التوصل إلى اتفاق بوساطة أميركية لتطبيع العلاقات الشامل بينهما وخاصة الأمنية والاقتصادية. ناهيك عن التمدد الإسرائيلي غير المباشر في القارة الأفريقية.
* تطبيع هنا ومقاطعة هناك
وهذا يقودنا للحديث عن حركة مقاطعة ما يسمى بإسرائيل (BDS) التي تعتبر جزءاً من منظومة واسعة من الجمعيات والحركات المدنية والحزبية، التي استطاعت فرض المقاطعة أسلوب مقاومة فاعلة، وآلية للتعريف بالقضية الفلسطينية، وبالظلم اللاحق بشعب فقد أرضه ومواردها، بفعل احتلالها من قبل الإسرائيليين.. ووفق تقارير صادرة عن الحكومة الإسرائيلية ومؤسسة “راند” الأميركية فأن حركة المقاطعة ستكلف الاقتصاد الإسرائيلي مليارات الدولارات خلال الأعوام المقبلة.. وهذا يعيدنا إلى تقرير لوزارة المالية الإسرائيلية صادر في العام 2015 (نشره موقع جيروزاليم تايم الإسرائيلي)، جاء فيه بإن المقاطعة الأوربية أدت إلى أضرار تعادل نحو 147 مليون دولار سنوياً، وحوالي 430 شخصاً يمكن أن يفقدوا وظائفهم في وقت لاحق.
* مذبجة الدوايمة وأسكتلندا
أما على صعيد ثقافي فقد تراجع الاهتمام العربي بتفاصيل القضية الفلسطينية. وأذكر أن مجلس عشائر الدوايمة في الأردن ومنذ ثلاثة أعوام وهو يحاول الحصول على الموافقة الرسمية لإحياء ذكرى مذبحة الدوايمة التي تعتبر الأكبر عام 1948 إلا أن هذه الموافقة المرجوة علقت بذرائع شفوية غير مقنعة.. وذلك خلافاً لما قام به الاسكتلنديون في عاصمة بلادهم، ادنبرة يوم الاثنين الموافق ٢٩ أكتوبر ٢٠١٨، بتدشين نصب تذكاري في حديقة “ريغنت رود” بمناسبة مرور سبعين عاماً على المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في فلسطين عام ثمانية وأربعين، وقد اتخذ هذا النصب الذي أقيم تحت عنوان “مجزرة الدوايمة” الشهيرة ليعبر عن تضامن الشعب البريطاني مع الحق الفلسطيني المهدور.. وحضر حفل التدشين جماعة “أصدقاء فلسطين في أسكتلندا”، بمرافقة إحدى الفرق الموسيقية الأسكتلندية التي عزفت لحن الرجوع الأخير.
وتجدر الإشارة إلى أن بلدية أدنبرة كانت قد أحيت الذكرى الخمسين لمجزرة الدوايمة لأول مرة في ٢٩ أكتوبر ١٩٩٨حيث قام رئيس بلدية أدنبره آنذاك “أريك مليغان” بزراعة شجرة أطلق عليها اسم “الدوايمة” وما زالت منتصبة مكانها وظليلة كرمز لكل المجازر التي وقعت في فلسطبن إبان النكبة، حيث أقامت البلدية أمامها نصباً تذكارياً ما زال موجوداً حتى الآن، حيث شمله الاحتفال الأخير.
*أيام المقاومة والشهيد غسان كنفاني
انطلقت “أيام المقاومة” في العديد من المدن والعواصم العالمية التي أطلقتها ” شبكة صامدون ” في الذكرى الـ 48 على استشهاد الأديب الفلسطيني غسّان كنفاني يوم الثامن من يوليو تموز الماضي وذلك للاحتفاء بالمقاومة الفلسطينية من أجل التحرير والعودة، وبثقافة التحرر والمقاومة التي مَثلّها كلُ من: غسان كنفاني الذي استشهد على يد الموساد بتاريخ 8 يوليو 1972، في بيروت، لبنان.. وناجي العلي الذي استشهد في لندن بتاريخ 29 أغسطس 1987 إنهما شهداء الكلمة في فلسطين والشتات. حيث شاركت أسرة الشهيد كنفاني بالفعاليات ( زوجته آني هوفر وإبناه: ليلى وفايز).
وكنت أتمنى أن تتوسع دائرة الاهتمام برموز الثقافة الفلسطينية الذين طواهم الغياب بعد أن لفتوا اهتمام العالم نحو القضية الفلسطينية مثل الراحلين: الشاعر الكبير محمود درويش والفنان التشكيلي إسماعيل شموط وحارس الذاكرة التراثية الفلسطينية ورائد الفطرية والترقين الفنان عبد الحي مسلم زرارة.. وغيرهم.
ومن باب التذكير بخيار المقاومة الذي دُمغ عربياً بالإرهاب انسجاماً مع متطلبات صفقة القرن، فقد شهدت مدن أوربية وأمريكية مثل: نيويورك ودييربون وفانكوفر ومدريد ومونتريال ولاس فيجاس وأناهييم وغيرها مسيرات شعبية ومظاهرات حاشدة جابت الشوارع وُرفعت رايات المقاومة الفلسطينية واللبنانية والجبهة الشعبية وصور الأمين العام أحمد سعدات وجورج عبد الله خاصة في نيويورك ومظاهرات صامدون، ويافطات دعت إلى تطبيق حق العودة وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر والالتفاف الشعبي العالمي حول خيار المقاومة بكافة أشكالها من أجل إنتزاع الحقوق الوطنيّة المشروعة للشعب الفلسطيني.. وللأسف فإن هذا الحراك العالمي انحسر تماماً عربياً وخاصة بعد محاولة أمريكا فرض صفقة القرن على الشعب الفلسطيني التي يدعمها المطبعون.
إنها ذاكرة الشعوب الحية التي لا تنسى ما جرى في فلسطين من ظلم فيما تتجه القوى المتحالفة في إطار صفقة القرن نحو مسح اسم فلسطين من الذاكرة العربية التي يتم اغتيالها وخاصة النهج التطبيعي الأخطر الذي تمارسه الإمارات العربية الذي وصل إلى حد التحالف المعلن في كل الصعد والذي سيفتح أبواب التطبيع الثقافي مع الاحتلال على مصراعيه أمام دول أخرى مثل البحرين والسعودية وربما السودان والحبل على الجرار. وإن كان أصحاب هذا النهج سينتهون إلى خيبة وطريق مسدود لأن العالم يزداد تمسكاً بحقوق الشعب الفلسطيني ويعزز من وضعها الإنساني رغم انحسار تأييدها في نطاق عربي.
12 أوغسطس 2020