العمياء /بقلم: ريمة خطاب

بعد توسل متكرر، ولفترة طويلة من صديقي أحمد، من أجل الذهاب معه لبيت( الشيخة )، فوافقت على مضض.
قال لي أن مشكلته مع أبي حبيبته ستُحلّ، وسيفوز بها بعد أن يزور الشيخة حورية.
فهي تفك العقد، والمرصود، وتعيد الغائب، وتقرب البعيد.
هي ليست ساحرة ومشعوذة، بل كل أعمالها بكلام الله، من القرآن الكريم،
مع أني لا أؤمن بهؤلاء الفئة من الناس، ولا أصدقهم، ولا أحب مجالستهم لكن من أجل صديقي فعلت…
مشينا بين حارات غريبة، وفي زوابيق ضيقة، قطعنا مسافات مليئة بالأشواك والأعشاب اليابسة في أرض مهجورة.
أخيراً، وصلنا لبيت كبير، أسواره من حجارة صماء عالية.
طرق أحمد الباب بقوة، فتحت الباب امرأة ضخمة بعقدها السادس، تلبس ثوبا فضفاضا، وقد عصبت رأسها بمنديل أسود، رسمت على وجهها بعض النقوش الغريبة باللون الأزرق القاتم المائل للسواد، على الجبهة والذقن، والخد الأيسر،
لم تخلُ كفّا يديها من تلك النقوش أيضا، وكأنها رسوم فينيقية، أو طلاسم فرعونية.
دخلنا خلفها إلى باحة البيت الواسع، الذي كانت فيه أشياء تجعلك تتساءل عشرات الأسئلة عن كل شيء.
صفائح الزيت الفارغة الكثيرة، ترتبت فوق بعضها وكأنها علب كبريت،
كومة عيدان وأغصان أشجار متنوعة في إحدى زوايا البيت،
أعشاب مختلفة الأشكال علّقت على السور، بعد أن جمعت جرزا ، جرزا، وربطت بخيطان ملونة،
فوارغ المياه الغازية، المملوءة بسوائل، كل( قنينة ) بلون.
دخلنا ممرا مظلما طويلا بعض الشيء، أفضى بنا لغرفة كبيرة تصدرت داخل البيت.
رائحة عطر لم أشم مثلها أبدا، رائحة تضاهي العطور الفرنسية، عبقت بالأرجاء:
– تفضلا اجلسا…
( بصوتها الخشن العريض، قالت لنا )..
جلسنا على الأرض المفروشة بفرش فاخر، أنا وأحمد نتبادل نظرات التعجب والاستغراب، وبعضا من ريبة.
– أهلا وسهلا..
أنت أحمد الذي حدثني بالهاتف يوم أمس؟.
– نعم ياخالة، أنا أحمد، وهذا صديقي وسيم، جاء معي.
– نعم، الآن أحكِ لابنتي حورية عن مشكلتك، وهي ستساعدك إن شاء الله.
وأشارت بيدها إلى زاوية الغرفة حيث كانت هناك ابنتها قابعة، ولم ننتبه لوجودها من شدة انشغالنا بكل شيء.
كشفت عن وجهها المغطى بشاش أسود، فبان البدر بليلة تمامه.
صبية في عمر الورود، بياض بشرتها كأنه ثلج الربيع، لؤلؤتان زرقاوان كموج بحر في لحظة هدوء.
أما الثغر المرسوم بريشة خالق خلق فأبدع، تجعل كل من يراها يسبح ويبارك.
وعلى الوجنتين تدلّت خصلتان حريريتان، أخذت لونها من ليل كانون!.
تلك الأصابع المصطفة برتابة على الأكف كأنامل الأميرات في الأساطير القديمة!.
حورية، اسمها حورية، وفعلا هي حورية هاربة من إحدى الروايات الخيالية.
كنت أتوقع أن أرى امرأة عجوزا، مقطبة الحاجبين، كما كنت أسمع وأقرأ،
مثلا امرأة تشبه الأم، وليس هذا الملاك.
قال أحمد الذي تفاجأ بحورية مثلي:
– نعم ..نعم أنا قصصت لأمك حكايتي بالهاتف، والآن سأحكيها لك…
بعد أن سرد لها قصته، طلبت منه أن يعود في اليوم التالي، ويجلب معه صورة لحبيبته، ووعدته بأنها ستكون عروسه بعد فترة قصيرة بإذن الله،
أخرج أحمد من محفظته النقود، مدّ يده لتأخذها حورية.
– تفضلي هذا المبلغ الذي اتفقنا عليه أنا وأمك على الهاتف.
يالهول مارأينا!.
كانت تبحث بيدها عن يد أحمد في الهواء، إنها عمياء،عمياء!.
كيف لم نعرف أنها لا ترى؟!.
لكنها كانت تحدث أحمد وتنظر إليه!.
ياإلهي!.
مدت الأم يدها بسرعة، وخطفت النقود من يد أحمد.
– ابنتي لاترى، لاتنسَ أن تأتي بصورة حبيبتك غدا معك..
نظر أحمد إليّ، وقد تغيرت ملامحه، متأثرا بكل مايحدث،
لم يكن حالي أفضل من حاله، فأنا أيضا مذهول، مشدوه.
في طريق عودتنا للبيت، بعد تلك الزيارة للشيخة، كان كل واحد منا، أنا وأحمد، قد غرق في صمت خارجي، لكن في دواخلنا بركان ثائر، أسئلة، وفضول، والكثير من الحيرة، تسمرت قدماي في مكانهما، ولم نكن ابتعدنا كثيرا عن بيت الشيخة، وقلت:
– أحمد، أريد معرفة قصة هذه الحورية، لقد قتلني الفضول.
– لكن كيف ستعرف؟.
نسأل أحدا من جيرانهم، أكيد يعرفون قصتها..
– تعال معي، أمسكت بيد أحمد، وأسرعت الخطا.
أقرب بيت لبيتها طرقت بابه،
كان الجيران رجلاً وامرأة كبيرين في السن، قصصت عليهما قصتنا، وأخبرتهما عن فضولي الذي جاء بي لبيتهما،
أشعل الرجل العجوز سيكارة التبغ ( العربي )، وضعها في فمه، أخد نفسا عميقا وقال:
– الشيخة حورية لم تكن عمياء، إلى سن الثانية عشرة، كانت طفلة بارعة الجمال كما رأيتمانها.
وفي يوم من الأيام حضرت حفلة زفاف أحد الأقارب، وكانت ترتدي ثيابا جميلة، وتضع زينة الصبايا على وجهها الفائق الجمال هذا، وبعد عودتها للبيت، ارتفعت حرارتها وأصابتها حالة هلوسة وتشنج.
لم يعرف الأطباء سبب هذه الحالة، مع أن أباها رحمه الله عرض حالتها على أفضل وأمهر الأطباء، لكن دون فائدة، حتى قال لهم يوما أحد المشايخ الذين أخذوها ليقرؤوا لها ويرقوها، بأن عين حسد شيطانية قد أصابتها.
بحماس كبير، قال وسيم:
-لكن الآن، الطب تقدم، لماذا لا تحاول أمها أن تعالجها؟!.
فربما تجد لها علاجا عندأحد الأطباء،
يقول العجوز:
لقد تحدثت مع أمها بهذا الشأن، وعرضت عليها مساعدتي، لكنها رفضت.
فتقاطعه زوجته بحدة:
– لاتريد أن تخسر باب الرزق الذي تعيش من فضله.
نظر إلي أحمد، وقد فتح عينيه المستغربتين مثلي.
تتابع الزوجة:
نعم إن الأم تعتبرها باب رزق ، ولن تقبل أن يغلق هذا الباب بشفاء البنت المسكينة أبدا، فكم من أشخاص عرضوا عليها أن يتابعوا حالتها، ويسعون في علاجها، لكنها رفضت رفضا قاطعا.
بصوت رافض لهذا المنطق( الأعوج ) يقول وسيم:
– مستحيل، هذا مستحيل، لا أصدق أنه يوجد أم تفعل هذا بابنتها، لا أصدق أن أما لا تحب الخير والشفاء لابنتها المريضة.
قالت الزوجة بصوت هادئ:
– ليست أمها، هي ليست أمها يابني، هي خالتها، زوجة أبيها المرحوم!!…

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!