آفاق حرة
عبدالجبارنوري
إن الكاتبة والروائية الأنكليزية ” أجاثا كريستي” ظاهرة ثقافية واسعة بالأضافة إلى كونها شخصية أدبية لها حضور بارز وواسع في وطنها الأم أنكلترة وشمولية كبيرة ومذهلة في جميع مدن الغرب الأوربي على الأطلاق ، حصلت على الشهرة والنجومية مبكرا بتحدي وشموخ فوق زخات وجع الحياة ، إنها أمتداد للعطاء الأدبي الثر والثري متجاوزة الزمكنة لجغرافية أوسع على مساحة كوكبنا الجميل لأثارة ( الوعي ) ضد الفجوة المريعة في التراتيبية الطبقية ، وهي الكاتبة الأكثر مبيعاً حيث بيعت رواياتها لأكثر من ملياري نسخة ، إضافة كونها أديبة متعددة المواهب فهي تعشق البستنة ولقد فازت بجوائز محلية في البستنة ، وأجادت في مهنة التمريض خلال الحرب العالمية الأولى ، وتخصصت في كيمياء السموم خلال عملها في المستشفيات الأنكليزية وأستعملتها كعلاج لبعض الأمراض ثم أدخلتها كعامل مثير في تحريك شخوص رواياتها البوليسية التي وصلت إلى 62 رواية بوليسية ، أضافة لهوايتها السفر والترحال وخصوصاً لمدن الشرق البهية والجميلة بشمسها الدائم ومناضرها الخلابة ، وهواية مشاهدة شواخص ولقى مدن الآثار الشرقية مثل آثار بابل في بلاد الرافدين والأهرامات في مصر بل أقامت في بعضها حتى وصفها النقاد بأجاثا شرقية الهوى ، وفلسفتها في الحياة وهي تقول : ( إن الشر عرض محض عرضي لابد من تقبله ) ففي جميع رواياتها وخاصة البوليسية ثمة دوامة أستعصاء تلبس المتلقي في تفكيك الشبكة العنكبوتية بعد أسره الطوعي لأيجاد ( الحل ) حينها تبرزبعفويتها الأبداعية لتشير على القاريء بأيماءة غير مباشرة منبعثة من قوة حبكة الدراما في الرواية .
الكاتبة العملاقة الأنكليزية ” أغاثا ماري كلاريسا ” والمشهورة بأغاثا كريستي مواليد 1890 من أب أمريكي وأم أنكليزية ، وتوفيت في1976تعتبر أحد أعظم مؤلفي الروايات البوليسية في القرن العشرين ، ولكنها كتبت في الرومانسية بأسم مستعار ( ماري ويستماكوست ) .
وشغفتُ شخصياً أيام الشباب بمغامرات هذه الكاتبة الجريئة ذات الأفكار الخيالية الفنتازية ، والواقعية الحاضرة الغائبة في أختيار (الزمكنة ) بشكل بارع حيث يكون المكان ذو نكهة ملطفة ومخففة من الجو الخانق للجريمة ، وعنصر الزمن تحبُ فيه أن يكون عتيقا بتقادم عمرالسكوج الأسكتلندي .
ولا ادري كيف بدأت تخبوهذه الرغبة لدي في القراءة ربما بعد العد التنازلي مع تخضيب شعرالقُمة ببياض قمة أفريست ، وثمة أدمان إلى القراءة في الثمانينيات القرن الماضي بعد أنتهاء الحرب العراقية – الأيرانية العبثية والظالمة تفرغت لترميم مكتبتي المتواضعة ، وقد أقتنيتُ حينها بضعاً من كتبها منها: (جريمة في الصحراء ، ساعة الصفر ، عدالة السماء ، الرجل الغامض ، ومقتل روجر أكرويد ، من مجموع أكثر من 62رواية بوليسية .
ومن هواياتها المحببة رحلات بأتجاه الشرق ، كما تقول في مذكراتها : {أحببتُ الشرق لفضاءاته المشمسة ومفازاته الشاسعة }، وحقاً أستفادتْ ” أجاثا كريستي ” من تلك الرحلات ، وكتبت أجمل الروايات ، تصف فيها طبيعة الشرق ، والأسواق الصاخبة ، وطبائع البشر ، ومشاهدة الآثار واللقى التأريخية والكنوزالثمينة التي تحتويها بلاد المشرق ، نُقلتْ رواياتها من الأنكليزية إلى عدة لغات أهمها الروسية والصينية واليابانية والعربية ، وقد تمّ تصوير بعض رواياتها كأفلام سينمائية ولاقت رواجا واسعا في شبابيك التذاكر، وقد ضربت رقماً قياسياً في بيع رواياتها حيث وصلت إلى ملياري نسخة في جميع أرجاء العالم ، والآن الكاتبة متوفاة منذ أكثر من 46 عاماً وما زال الطبع والترجمة والنشر مستمر مع دور النشر العربية .
منهج كريستي في الكتابة
– تلجأ الكاتبة إلى تكنيك روائي مميّز يرتكز على الخداع السينمائي في التشويق المفعم بالغموض والذي يشد القاريء إلى متابعة الحدث وحتى تضطرهُ لنظرية الأحتمالات في التأويل والتفسير لأقتحام اللغز والرمز في سرديات الرواية وبتشكيلٍ متقن مسبقا في المحور الأساسي للبناء الدرامي .
-كروائية بوليسية لم تستمد نصوص لرواياتها من سجلات الشرطة أو المحاكم كما هو متداول في كتابة الروايات البوليسية ، وأكثرية كتاباتها من وحي تأملاتها وخيالها الخصب بذهنٍ واسع الخيال مبدع يلهم الحياة بالحيوية ، وذاكرة قوية متمكنة على تتبع الأحداث حيث تتفنن في تحريك أبطالها وفق السياق الدرامي الذي أختارتهُ لكل رواية .
– لقد أستعملت الألغاز والخرافات والحقائق التأريخية والمعاصرة وبذات النفس الطويل والصبور في وضوح الرواية وغموضها . – أستعمال الكم الهائل من الألغاز والحبكات الدرامية الغامضة في البناء القصصي والمعمار الدرامي او في سرديات الحوار لشخصنة أبطال الرواية .
– أختيار مسرح الأحداث غالباً ما يكون في جميع رواياتها مشوّقة تبعث على التأمل كأن تكون مواقع أثرية ، مدن شرقية ، معابد ، قصورفخمة فنتازية ، فنادق مشهورة ، قطارات ، طائرات ، مضايق مخيفة ، صحارى مقطوعة .
– تعتمد في أغلب رواياتها على العامل السايكولوجي ( الفرويدي ) لأسر الذات عند المتلقي بأساليب أنثوية حوائية بأستعمال الحواس الذكية للقاريء لتظهر له صورة جديدة تحل اللغز وتكشف الجريمة في قالب درامي ممتع وشيّقْ .
– وقدمت روايات بوليسية عن بغداد مثل: “رواية وصلوا إلى بغداد ” They came to Bghdadوأن ( أرخنة ) هذه الرواية تزامنت مع زمكنة جغرافية بغداد وتأريخ هوس جموع المستشرقين وعلماء الآثار الغربيين ، كتبت هذه الرواية البوليسية المثيرة للغوص بالمتلقي – بلا واقيات غرق-هدف ملامسة أعماق الذات البشرية للمتلقي في مواصلة أحداث الرواية بشوق وحرص شديدين ، وهي رواية تحقيق لأجاثا كريستي نُشرت لأول مرّة في 5 مايس 1951 {والتي تبدأ روايتها بهذه الأغنية السمفونية الجميلة —- كم من الأميال تبعد بلاد بابل ؟ / أنّها تبعد ثلاث مسافات زائد عشر/ هل أستطيع الوصول إلى هناك عند العشية ؟ / أجل والعودة أيضاً } —- تروي فيها قصة أكتشاف العميل السري البريطاني أن سلاحا سريا قد تمّ تصنيعهُ ، وأن هناك كميات هائلة من الأموال قد سُرقتْ ، وكذلك كميات كبيرة من المجوهرات ، وتحتوي الرواية سلسلة من الجرائم المترابطة التي شغلت مجموعة من المنظمات السرية والتي كشفتهم ملابسات التحقيق بألتقائهم في بغداد ، والحل يدور حول لغز مهم على المتلقي والقاريء أكتشافهُ بقراءة بين السطور .
ويبدو لي حلا وهو قابل للخطأ والصواب : هو أن أكثر أفراد شخوص الرواية أذا أردنا تغيير صورهم إلى الحقيقة الملموسة أنهم جميعا مزيفون وأصحاب شركات أستثمار في أكتشاف الآثار وجواسيس دول كبرى ، وباحثون عن البترول ، فوقع أختيارها لجغرافية الرواية مدينة بغداد ، الغافية على ضفاف دجلة الخير ، حينها وفرتْ جمال الطبيعة والتي تقتضيها الرواية وتكاملت أسس حبكة الرواية عندها بالعنصر الثاني (التقادم التأريخي) ، وتوفرت الفرصة لعقد أجتماع سري يضم قادة الدول العظمى بعد الحرب العالمية الثانية ، غير أن هذه المعلومات تسربت – لسوء الحظ – فوصلت لمنظمة سرية تسعى إلى أفشال هذه القمة التي هدفها حماية الجنس البشري من كوارث الحروب ، عندها تقع بطلة الرواية في الشبكة العنكبوتية لعصابات الجريمة المنظمة ، ويشارك المتلقي الممثلين توترهم وأحباطهم ، وكون فتاة الرواية جريئة وطموحة وتعشق المغامرة بشكلٍ تفوق توقعات المشاهدين ، تصل وجمهور المشاهدين لحل (لغز) الرواية الذي تبين أنه مكتوب على ظهر جمل أبيض محمل بالشعير ، أنتقل من قارة إلى أخرى ثُمّ أستقر في كربلاء التي تصلها البطلة بعد أقامة مطوّلة ومغامرات في بغداد والبصرة ، ثُمّ لا يسلم الشيخ ” حسين الزيارة ” وهو الرجل الذي يحفظ اللغز والوثائق التي تدين التنظيم الخطير ، وشفرة الرواية عجز أحد أبيات المتنبي {زد- هش هب أغفر أدنِ سُرّ صل}// وشطرهُ— أقل أنك أقطع أحمل عل سل أعد} ولا تتوضح نهاية الرواية ألا بعد أن يتلوعليه صديق الجاسوس القتيل ( كار مايكل ) سر الليل كما يعمل به في العسكرية ، وليس المهم وثائق شيخ كربلاء .(أقتباسات هامشية بتصرف من الروايتين القصيرتين لأجاثا كريستي – رواية لقاء في بغداد ، ورواية جريمة في وادي الرافدين ) .
فالأهم كيف وصلت هذه الجنيّة ” أجاثا كريستي ” إلى هذا البيت من شعر المتنبي لتجعلهُ عقدة روايتها ، وهو بالفعل أعقدْ ما أبتكرتهُ المخيلة الشعرية العالمية ، وأليك فك شفرة البيت الشعري للمتنبي : { تبدي لك الأيام ما كنت جاهلا —- وتأتيك بالأخبار قبل أن يصلوا } .
كُتب في أيلول 2022
مصادر وهوامش
-كتاب / جريمة في قطار الشرق السريع – أجاثا كريستي .
13كتاب من أكثرالكتب مبيعا في التأريخ على الأطلاق د/مروة محمد – نت
أديب وباحث عراقي مقيم في السويد