الناقد المغربي أحمد وليد الروح يقشر نص( القصيدة)للكاتب الأردني محمد صوالحة

يأخذنا الشاعر محمد صوالحة في قصيدته “هلوسة القصيدة (2)” إلى رحلة عميقة في ذاته وفي مفهوم الشعر لديه، متجاوزًا الحدود التقليدية للتعريف، حيث يقدم لنا رؤية تتسم بالذاتية المفرطة والتناص مع التجربة الحياتية والشعورية. في قصيدة تتجاوز كونها مجرد كلمات، لتكون مرآة عاكسة لعوالم الشاعر الداخلية، مرآة تكشف عن نفسية متشابكة تتأرجح بين المثالية والواقعية، بين العشق والبحث عن الذات.
يبدأ الشاعر قصيدته بحوار افتراضي مع حبيبته أو ملهمته، “عادت وقالت اكمل لتطرب روحي وغن لي”. هذا الاستهلال قد يمهد للمضمون، فهو مفتاح الولوج إلى عالم الشاعر، حيث تبرز المرأة كعنصر محفز للإبداع، وصوت يدعوه إلى الغناء، أي إلى التعبير الشعري. فسؤالها “ما القصيدة؟” يدفع الشاعر لتقديم تعريفات متعددة ومتشابكة، تكشف عن عمق تجربته وفلسفته.
وتعريف القصيدة بأنها “وطن للعاشقين، للكادحين والمتعبين” يحمل دلالات عميقة. فالوطن هنا لا يشير إلى بقعة جغرافية، بل إلى ملاذ آمن للروح الإنسانية المتعبة والمنهكة. إنها مساحة يتنفس فيها الشاعر الحب، وتجد فيها النفوس المرهقة (مجموع القراء) عزاءها. فهذا التشبيه يكشف عن نفسية شاعر يحمل هموم الآخرين، ويؤمن بقوة الشعر على احتضان هذه الهموم وتضميد جراحها. فهو يرى الشعر ملاذًا لا فرق فيه بين عاشق يتوق وبين كادح أنهكته الحياة وشقاء العيش، كلاهما يجد في القصيدة سكنًا وعزاء الروح.
بعدها ينتقل الشاعر ليصف القصيدة بأنها “معبد أقيم فيه صلاة القلب، أرفع فيه أذان الحب، وأتلو فيه ترانيم العشق وابتهالات روح عذبها يومها”. هذا التحول من “الوطن” إلى “المعبد” يرفع القصيدة إلى مستوى القداسة والروحانية. فالشعر هنا ليس مجرد تعبير فني، بل هو طقس ديني شخصي، يقوم فيه الشاعر بمناجاة ذاته ومحبوبته وربما الكون بأكمله. “صلاة القلب” و”أذان الحب” تشيران إلى عمق التجربة الروحية التي يختبرها الشاعر من خلال الشعر. إنه مكان للتطهير، للتعبير عن أعمق المشاعر، وللتسامي عن آلام الحياة اليومية التي عذبت روحه. فهذا الوصف يوحي بأن الشعر هو الخلاص الروحي للشاعر، وهو وسيلته للتصالح مع ذاته ومع واقعه.
ويستمر الشاعر محمد صوالحة في نسج تعاريفه المتعددة للقصيدة، فنجدها “حبل تتدلى منه الأحلام، يمسك أطراف العمر”. هذا التشبيه يكشف عن علاقة الشعر بالآمال والطموحات الإنسانية. إنه خيط رفيع يربط الشاعر بأحلامه، ويمنحه القدرة على التمسك بالحياة وأطرافها المتهالكة. إنه الأمل الذي يمنع الانهيار، والدفع الذي يبقي الحياة نابضة.
ثم ينتقل إلى تشبيه جريء ومثير: “القصيدة نهد… أنثى يتلألأ إذ قشرته كشفت وجه القمر”. هذا التشبيه يكشف عن حضور الأنوثة الطاغي في وجدان الشاعر وإبداعه. فالقصيدة هنا لا تصبح مجرد أداة للتعبير، بل تتحول إلى جسد أنثوي، رمز للجمال، للإغراء، وللكشف عن الحقيقة. تقشير القصيدة يعني الغوص في أعماقها، وإزالة الحجب عنها، ليكشف الشاعر عن جوهرها، الذي يتجلى في صورة وجه القمر وهو رمز النور والجمال والنقاء والكمال. فهذا التشبيه يكشف عن نفسية شاعر يرى في الجمال الأنثوي مصدرًا للإلهام، ويجده متغلغلًا في نسيج إبداعه. إنه أيضًا اعتراف ضمني بأن الشعر، في جوهره، ينبع من حساسية مفرطة تجاه الجمال والأنوثة، ويتماهى معهما.
يواصل الشاعر وصفه للقصيدة كـ”بضع كلمات صارت على شفتيك حروفها نورا ونار”. هنا، ينتقل التركيز من القصيدة ككيان مجرد ليجسدها في الآخر، في المحبوبة. فكلمات القصيدة تكتسب قوتها وجمالها عندما تُنطق من شفتي المرأة، لتتحول إلى “نور” يهدي و”نار” تحرق. هذا التناقض بين النور والنار يعكس طبيعة الحب المزدوجة، وقدرة القصيدة على إثارة المشاعر المتناقضة في نفس الوقت.
ثم يستمر في تشبيهها بـ”خد امرأة ان ابتسمت خجل الصباح وغاب”. هذا التشبيه يبرز الجمال الأخاذ للقصيدة وقدرتها على سحر الكون ذاته. فابتسامة المرأة، التي هي القصيدة، تتجاوز جمال الطبيعة، مما يجعل الصباح يخجل ويختفي. وهذه المبالغة الشعرية تكشف عن عمق افتتان الشاعر بالقصيدة وجمالها المتجسد في الأنثى.
يصل الشاعر إلى ذروة التماهي في قوله: “القصيدة سيدتي… هي أنت إن استلقيت على صدري وداعبت يداك كلي”. هنا، القصيدة والمحبوبة والذات الشاعرة تتحد في كيان واحد. لم تعد القصيدة مجرد موضوع أو أداة، بل أصبحت هي المرأة ذاتها، هذا التماهي يكشف عن نفسية شاعر يرى العالم من خلال عدسة الحب، حيث تتداخل الحدود بين الأشياء، وتصبح المحبوبة هي مصدر الإلهام الأكبر، بل هي القصيدة بحد ذاتها. والعلاقة هنا ليست جسدية فقط، بل هي روحية وعقلية، حيث الشعر هو نتاج هذا الاحتضان الكلي.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!