أهربُ من وجعٍ الروح وضجيجٍ القلب … أفرُ من الضبابٍ الذي لفً حسناء المدن… من دموع سكنت عيون عمان … افرُ من وهني وضعفي … الوذُ بجنباتِ السكون … استمعُ لقهقهاتِ الحصى عندما تلامسها خُطى القادمين اليها…. المشتاقين لروعتِها … اللاهثين خلفَ تاريخِها الحافلِ بالانجازاتِ.. الحالمين بالنظرِ الى بهائِها… الأتين للتمتعِ بجمالِها الأسطوري … الباحثين عما يهديهم الى نفوسِهم الضائعة … ويثيرُ فيهم التساؤلات عن سرِ اختفائِها في قلب الزمن قروناً … استمتعُ بأناشيدِ الجنودِ وصليلُ سيوفِهم … انظرُ اليها اتأملُها … فصمتهُا يبوحُ شعرأ وصخرُها يفوحُ عطرا … وليلُها يذيبك نشوةً وعشقا … همهمةُ الحصى التي تحتظنُ الخطى بكلِ الدفءِ ابلغُ من كلِِ القواميس …. وأقوى من أي تعبير ،اي شعرٍ واي كتابةٍ هي التي قد ترتقي لمستوى البتراء .
البتراءُ وبالرغمِ من الصمتِ الذي يلفُها الا انها تضجُ بالحياةِ بالحبِ والحنينِ وتشعرُك بلذةِ وجودِك وقيمةِ انتمائِك لهذا التراب الذي منه كان الانباطُ ومنه كنت … البتراءُ تعجُ بالحنين ِالى ما يعيدها اسطورةً باقية ً… ومعجزةَ الانسان الخالدة .
تقودني الروح الى مدينة الحلم … المدينة التي ادهشتني ، عندما وقفت على بوابتها للمرة الاولى وكنت حينها مازلت على مقاعد الدرس فتيا … كنت بعمر الورد عندما حُفرت بذاكرتي … كانت مخيلتي لا تزال تحتفظ بعذريتها … كنت ما زلت الثغ أول حروفي … وكان جنوني في بداية خطوه يحاول تمزيق ثوب الطفولة وعتمة البراءة .
ظلت تناديني وأسمع ذلك النداء يشدني اليه وتغيب الروح في اركانه البهية … لكنه الزمن القاسي وعجرفة الايام كانا يسدان الطريق بيني وبين اول نقش حُفر على جدران الروح … ظل يلح عليّ بهائها الخرافي ولونها الوردي وانعكاس اشعة الشمس على اعمدتها ودروبها للعودة اليها.
هأنا اعود اليك مكبلاً بقيود الشوق لأطفىء ظمأ القلب لرؤية الروح الاسطورية التي تكونت منها مدينة الحلم … واختلاط اللون الوردي مع اشعة الشمس لتشكلان روعة الفن وقمة الابداع الانساني … لتخمد نيران الروح المشتاقة لبهاء المعابد فيها والاطلاع على جدلية الحياة …” فلسفة الموت وقيمة الوجود “… اي فن كان يقام على مسارحها الموزعة بأناقة على الساحات والدروب المطرزة بالحجارة التي صقلتها ايد فنانة مبدعة .
انها البتراء انشودة الدنيا وترنيمة الحياة مذ كانت واظنها مستمرة كذلك الى ان يرث الله الأرض ومن عليها … ، البتراء الآتية من زمن رحل بكل مافيه من نشوى الانتصارات … نشوى الفرح بأفواج لقادمين اليها بحثا عن الامن … نشوى الاحتفاء بالقادمين اليها ليودعوا خيرات اراضيهم فيها . وحدها البتراء والتي لفرط عزتها اختفت عن العيون وغابت خلف صمت الصخور … ارتدت ثياب صمتها ونامت في عيون الزمن عندما تجرعت مرارة الخيانة وذاقت جمر الهزيمة نعم غابت ولكنها ابقت اثرها شاهد اً على تاريخ عز وشموخ وإباء . هي وحدها التي جعلتني اطرح سؤالي على صخورها دون خوف او خجل … ان كنت قد رحلت لمدن النسيان ردحاً طويلاً من الزمن … من اين ورثنا نحن نشوة الهزيمة والفخر بالتبعية والاعتزاز بالانكسار.والمبهاة بتسمية الهزائم والانكسارات فمن نكبة الى نكسة الى تحرير كاذب ثم عاصفةالصحراء وحرب للخليج سميت بالأخيرة … هانحن نسفك دماء بعضنا فأرض النعمان اقتسمها الخوارج (الرافضة) وعبة النار وهجروا النصارى . وهاهو الدم يسفك في ارض دجلة وفيها تتكرر ايام التتار … ويُستنسخ (تيمورلنك) ايها الكاهن ادخلني لسيد الأرض فأنا جئته طالبا النجدة لوقف نزيف الشمس على ابواب مدينة السلام … هاهي المعابد ياسيد التاريخ تهدم على رؤوس من فيها وكذلك المراقد هاهو دجلة يُصبغ بالأحمر القاني … اعدنا الى ذواتنا حتى لو اضطررت لإبادتنا .
إذاً هي سيدة الأرض … هي مملكة الصحراء … “مهد الاله شراه” حاضرة التاريخ والمئذنة على جبينه … نقش الأنباط على صدر الزمن … درة الحضارات … ارض البداوة …. ارض الحوارث… “ارض رب ايل ” مملكة الانباط .. انباط البتراء … ابناء هذه الرمال وهذا الطين الذي منه كانوا ومنه كنت . ارى الشمس ترنو لغرة الايام .. للبتراء والتاريخ الذي ابداً لا يفارقها .البتراء هي الجدارية الأولى التي ابدعتها يد الفنان النبطي واهداها للأنسانية لتبقى شاهد عصر للأنباط الذين زاحموا روما اعظم ممالك الأرض في ذلك الزمن بل وهزموها وكانت المسيطرة على طرق التجارة البرية والبحرية في زمنها .
اقف امام خزنة الجرة التي هي المدخل الرئيسي للبتراء … تنساب الدموع من القلب والعيون ..واتسأل ما الذي اسقط الدمعة الحرى النقية وانا على مشارف الحلم … أهي دموع الفرح بأن حققت حلمي بالعودة اليها …أم هو وهج القلق … وحرارة الدهشة أم هو انحباس الكلمة داخل شيطاني او ملهمي … ام انها السعادة بتحقيق الخطوة الأولى من هذا الحلم الذي بقي يراودني منذ رأتها عيناي لأول مرة … ام هو الشوق والحنين للبتراء وزمنها الحر العزيز ؟.
اقف في حضرتها وامام الخزنة الخالدة مخاطباً :- الشوق يشدني اليك يا بتراء العزة يا وجه التاريخ المشرق … يا خلود الأجداد … يا معجزة الانباط الخالدة رغم انف الزمن وتفاعلاته .
اقف امام بوابة البتراء او خزنتها “خزنة الجرة”مع زميلي في العمل وهو يمسك بقلمه اخاطبه يا عزيزي هل تستطيع الكلمات ان تُبقي على معانيها وهي تقف في حضرة عروس الممالك وزهرة الصحراء … وقُبلة ذلك الفنان الدائمة على وجنة الارض . الى هنا يا صديقي كان الفرعون وزنوبيا والنعمان وكل ما كان يحيط بهذه المملكة من ممالك كانوا يأتون بخيرتهم اليها وهم يعلمون علم اليقين بأنها لن تضيع او تنهب … هنا ابداً لاتخان الأمانة .
اقف على بوابة البتراء ، استعيد ذكريات المرحلة المدرسية التي قادتني اليها … استذكر تلك الاسئلة الساذجة التي كنا نوجهها لاستاذ لم يكن يعرف من تاريخ البتراء شيء … يالهي كم اهتزت صورة المعلمين في نظري بعد ان ظلت ولفترة طويلة لا تقبل الجدال وهي المعرفة الكاملة والشاملة لكل الاشياء … كيف لكلمات المعلم أن تحتمل الخطأ والصواب ؟.
هيا يا ابن هذا الطين ….يا ابن الحسنات والبدول … يا ابن الحويطات … يا ابن البداوة يا ابن الطفيلة وبان معان الشامية … هيا ايها القادم من سيدة المدن .. من عمان … تعال يا ابن الاغوار الابية .. يابن اربد والمفرق … يا ابن عجلون والزرقاء … لنبدأ رحلتنا الى السحر … الى ابنجاس الحضارة … الى الرمز الانساني الخالد … هيا يا عزيزي لأطلق سرح الروح التي اتعبها هذا الجسد لتصغي لبوح البتراء ولتلوذ بفنائها الرحب … لتسمع وتستمع بأناشيد النصر التي ترددها السنة الجنود المنتشين بفرحهم …. واغاني العشق التي تطلقها حناجر الصبايا الجميلات والفرسان الحق … وتفرغ انطفاءات القلب وتداوي جراح السنين وتعيد تشكيل الذات من جديد … من خلال الانتشاء بالمكان المسكون بعظمة الانباط وايام اشراقهم .
هأنا اسير في سيقها الاطول من تاريحنا … الاسمى من وجودنا ولا أزال تحت تأثير خزنة الجرة … اتلمس الحجارة فتنعشني نعومتها … اصغي لاغنيات الحصى المتطاير من تحت الاقدام … أشعر بالجند يحيطون بي من كل اتجاه … من هنا سيطل عليّ احد الحوارث .. ارى نفسي وانا انحني امامه … اسمعه يوبخني على انحنائي وينكر عليّ عروبتي … من هنا ستظهر ” شقيلة ” اذوب في سحر عينيها … يغرقني عبق انوثتها وتخيفيني هيبتها … آآآه ايها القلب كيف تجمع في شخصها الانوثة الطاغية وهيبة القوة … شقيلة ايتها الملكة الرائعة يا أم رب ايل الثاني .. كيف سيرتي امور مملكتك العظيمة في غياب (اعظم ملوك البتراء ) كيف لي ان اطبع قبلتي على يدها فأدخل التاريخ … واعلو بها كزعرودة البتراء بعد قليل سامتع عيني بالنظر لإبنة الفرعون التي احتفى بها الأنباط وبنو لها قصراً اسموه قصر البنت … هنا سيوقفني الجند … يسألونني من أنا ومن اين اتيت والى اين سأتجه … اخبرهم بوجهتي وبحثي عن اجدادنا الانباط . يركض صديقي احمد باتجاهي وانا أنادي “شقيلة ” يا مرأة تجسدت في عينها روعة الكون … يامرأة فاح عبق سحرها في الدنيا … واشعلت بشموع انوثتها ليل البتراء … ايها التاريخ … من لنا بعد الحارث الرابع … من لنا بعد شقيلة … صدى صراخي وانا نادي ايها المكتشفون يا علماء الأثار فتشوا في حجارة البتراء لعلكم تعثرون على المزيد من اخبار هذه المملكة العصية على الفناء … لعلكم تجدوا من اخبار شقيلة ملكة بترا المزيد من الاخبار .
يفاجئني صوت زميلي ورفيق رحلتي بصوته الخفيض ليخبرني بأننا وصلنا الى المعبد … اتسلق الدرج الطويل … اسابق انفاسي … يتراءى لي الكاهن … أرجوه ان يعمدني بتراتيل الانباط … وان يعيدني من زمني المقرف … آه يا سيدي اين شراه … اسمح لي بالمثول امامه … لأرى ذلك الإله العربي اللسان الأرامي الحرف … قدمني قرباناً على مذبحه لعله يرضي شعب يئن تحت وجع الايام وظلمها كما كان يرضي شعبا مترفاً .. شعبا كان سيد نفسه وسيدأ لمن حوله … قدمني قرباناً على مذبحه لعل دمي يتسرب بين شقوق البتراء فيختلط بلونها البهي … فاكون جزاء من بترا الأنباط .
هأنا الجأ اليك … الوذ بابهائك السنية … لاطفيء عطش السنين … اركض لمدافنك احاول نثر التراب عن اضرحة اناس اختاروا بطن الأرض قبل أن تمسهم الهزيمة .
أعود اليك وانتٍ التي اخترت البعد عن البحر لانك لا تأمنين غدره … ابتعدت عنه قليلاً ولم تفارقيه … جاورت رم وكانت ضمن حماك … اه ياابنة الصحراء شهيقك نسيم البحر وزفير وهج الصحراء لتكون غيوم الشموخ وتمطر على هذه الأرض عزة ومجد .
ها هو نبي الله هارون يربض بالجهة المقابلة لعينيك يحرسك بدعائه يتوجه الى الله ان يبقيك زهرة للأرض وزغرودة تلجأ اليها القلوب لترتاح من عناء ايامها الثقيلة .
اخيراً
شكراً ايها المغامر الصغير لأنك اعدت تأثيث الذاكرة الانسانية من جديد ناقشاً البتراء وشماً يزين تاريخ البشرية منذ اول ضربة ازميل في صخور تلك الأرض … شكراً لأنك نفضت التراب عن تلك المدرجات والدروب والساحات التي زينت ببلاط نقشه الفنان النبطي … شكراً لانك اعدت اكتشاف البتراء لتعيد الفرح لشفاه الشمس .. عندما ترى اشعتها وهي تمتزج باللون الوردي الذي يشع من اعمدة وبلاط البتراء .
بيركهارت .. الا من عودة للبحث والتحري ونفض المزيد من التراب عن تلك التي ما زالت تختبيء تحت اطنان منه .
شكراً بيركهارت لانك اعدت البتراء غمامة تظلل هذه الأرض وتنعم عليها بأوسمة الأجداد … شكرا ايها المغامر العملاق لانك اعدت اكتشاف البتراء فأعدت اكتشاف الانسانية .
شكراً ديفيد روبرتس لأنك طرت بالبتراء الى الدنيا … لانك كحلت عيون العالم برسم البتراء عندما غفلت عنها عيون ابنائها … شكراً ايها الفنان العظيم .. يا فنان البتراء لانك اعدت تسويق البتراء وجعلت الحجيج يأتون اليها على كل ضامر ومن كل فج عميق … شكراً لكل يد نفضت عن عيون بترا زهرة الصحراء ذرة تراب لترد عن عيون الشمس حزنها !!!!!!!.