لم يعد يفصلني عن البيت غير بضعة أمتار والقنال لا يزال ممتدّا على مدى أبعد من البصر… نازعتني نفسي وأغرتني بأن أتسكّع بعض الوقت الإضافيّ قبل أن أعود إلى البيت، أنا الّتي ما فعلتها بمفردي أبدا! ألحّ عليّ السكون وهذا الخلاء وهذا الماء وهذا البهاء فاستنفرتُ فيّ الطفلةَ المتمرّدةَ وحشدتُ كلّ جيوش الرّغبة في أن أنطلق دون قيد يكبّلني ما دام الطّفلان بالمدرسة وأن أُطلق العنان لنفسي ترحل مع شرودها حينا ومع تيقّظ الحواس كلّها حينا آخر… في هذا الصّباح وأنا أسير بين ماء وسماء اكتظّت نفسي بكلّ النّصوص الّتي حفظتها عن ظهر قلب لشعراء فرنسا وأدبائها الكبار، أمثال لامرتين وفرلان وهيقو وبودلار وروسو وديدرو… وتناهت إلى سمعي أصوات معلّميّ وأساتذتي الأجلّاء شارحين محلّلين وتراءت لي صورتي وأنا في مقتبل العمر جالسة في المقعد الأوّل عند مدخل قاعة الدّرس وكلّي انبهار وكلّي شغف وكلّي يرتّل ما كنتُ أستعذبه وأستزيده… يأخذني من خدري الحالم صوت سيّدة عجوز مُثقلَة الخطى تداعب كلبها الجميل وقد دثّرته بلباس صوفيّ أنيق على مقاسه تماما. كانت تمسك بسلسلة برّاقة قد شُدّت إلى رقبته وظهره وكان يحاول أن يسرع الخطى في حبور من أنس بفضاء رحب وكانت تحمله برفق على أن يسير على هدي خطاها البطيئة وتداعبه بمعسـول الكـلام فهـو “عزيزها وصغيرها وحبّها وأنيسها…”! جلست العجوز على أحد المقاعد الخشبيّة المبثوثة على ضفّتي الشّارع وأطلقت له العنان ليمرح ويقضي حاجته الّتي من أجلها جاءت به إلى هنا… يبدو أنّ الكلب أيضا راقه هذا المكان فظلّ يركض ويقفز ويطلق أصواتا ما هي بنباح، وظلّت تراقبه مبتسمة راضية… جلستُ إلى جانبها محيّية فردّت بأفضل من تحيّتي وطفقت تقصّ عليّ بعض أخبارها ومغامراتها مع كلبها وأنا أبتسم ولا أحير تعليقا. ولم تلبث طويلا حتّى ودّعتني خشية أن يقلق كلبها أو يُصاب ببردـ هكذا قالت. ودّعتُها بابتسامة وهاتف يهتف بي: “إنّ لله في خلقه شؤونا وإنّ للكلاب كما للعباد حظوظا!” ظللتُ أتبعها وكلبها حتّى توارت تحت الجسر ثمّ واصلتُ طريقي وأنا أبحث عن ذاك الكرسيّ الّذي جلستُ عليه في الصّائفة مع زوجي وابني وزوجته وحفيديّ فما ظفرتُ به: كلّ المقاعد متشابهة وخالية من الجلّاس… أين تراهم كلّ أولئك الّذين التقيتهم في شهر أوت الماضي؟! إلام صار أمر أولئك العشّاق المتضامّين المتعانقين الّذين ضاقت بهم المقاعد؟! إلام صار أمر أولئك المهمّشين النائمين عليها رفقة كلابهم أو دونها؟! أ ترى الصّقيع قد محا كلّ أثر لهم أم تراهم انتجعوا أماكن أخرى أكثر حركة وأشدّ دفئا؟! مرّ بجانبي سرب حمام يبحث عن فتات، وكم كان القوت وفيرا أيّام الصّيف لكثرة المارّة والباعة! هذا الحمام أليف لا يخشى المارّة بل يقتفي آثارهم مصفّقا بجناحيه. وجدتني ألتمس من بعضه أن يمنحني جناحيه، لأطير إلى هناك، فهذه الأرض على ما هي عليه من جمال ونظام واحترام للإنسان والحيوان لا تتّسع لي ولا تنبت فيها أحلامي الكثيرة ولا زنابقي!!!
عادت تلك الطفلة الّتي تسكنني إلى مضجعها لتستفيق فيّ تلك الجدّة الحالمة دوما وكأنّها تكتشف العالم من حولها كلّ يوم وكأنّ السّنين الستّين الّتي عاشتها لم تحقّق لها الامتلاء والقناعة بما أوتيت… أجدني دوما ظمأى إلى معرفة أحوال البشر والحجر، عساني أعلم ما لم أعلم فأنتشي بكلّ مظاهر الاختلاف والطرافة الّتي تبعث فيّ حياة نضرة لم آلفها، فيتجدّد فيّ الشّباب الّذي ظننته قد أفل، وإذا بي في عنفوان إقبالي على الحياة، أعبّ منها بشراهة من لم يعش غير زُمَيْن أدبر على عجل كأضغاث أحلام عند الظهيرة… أراني أمشي شامخة منتصبة القامة، واثقة الخطوات، ما دام بي نبض يتوق إلى الحياة ويرنو إلى التجدّد مع إشراقة كلّ صباح… أستنشق النّسيمات الباردة ملء رئتيّ وأمدّ ذراعيّ إلى رذاذ جليد بدأت السّماء تجود به وأهرول نحو البيت الّذي تركته ورائي… تحت رذاذ المطر ودون مطريّة تقينيه، أقف عند جداريّة رخاميّة في الحديقة العموميّة الّتي يطلّ عليها البيت وقد بلّلها القطر وأقرأ:
“Quoi qu’ il arrive la flamme de la résistance française ne doit pas s’éteindre et ne s’éteindra pas”[1]
Général DEGAULE. 18 Juin 1940
أمسح الجداريّة بكلتا يديّ كأنّي أخاف أن يمحو الماء ما نُقش عليها وأنا أرثي وطني ورجاله وبالقلب غصّة ممّا فعل ” تتار هذا الزمان” بأقوال زعمائنا وحكمائنا وممّا اقترفت أيديهم من تدمير بعض معالمنا، جهلا وبؤسا… فينتشلني أبو القاسم الشّابيّ مطمئنا، مزمجرا:
سأعيـش رغـم الـدّاء والأعـداء * كالنّسر فـوق القمّـة الشمّـاء
أرنو إلى الشّمس المضيئة هازئا * بالسّحب والأمطـار الأنـواء
لا أرمق الظلّ الكئيب ولا أرى * ما في قرارالهوّة السّـوداء…
النّور في قلبي وبيـن جوانحي* فعلامَ أخشى السّير في الظلماء؟
سيكون مثل الصخرة الصماء* فاصدم فؤادي ما استطعت فإنّه لا يعرف الشكوى الذليلة والبكاء وضراعة الأطفال والضّعفاء.
باريس، الاثنين 8 ديسمبر 2014
من كتاب: خربصات في أدب الرحلة، ج1
[1] مهما يحدث، فيجب أن لا تخمد شعلة المقاومة الفرنسيّة، ولن تخمد. (شارل ديغول، 18 جوان 1940)