بقلم : كريم عبدالله .. بغداد – العراق
يجد الأنسان العربي نفسه مقيّداً بالواقع المرير والحروب والصراعات المستمرة والكوارث الجماعية وضياع الحريات , عالم مليء بالعذابات والخيبة , تشعره بالغربة والانكسار وتحيله إلى كائن بائس منبوذ تلاحقه الفتن والهزائم . كل هذا السلب والاضطهاد يحدث في زمن فرضت سطوتها المادة الصماء على كاهله وبدلا من أن تعيد اليه حريته المصادرة زادت من عذابه وأمعنت في إذلاله وأخذته الى نفق مظلم لا قرار له . ويأتي هنا دور الأدب بصورة عامة والشعر بصورة خاصة على كشف هذا الزيف والحرمان والتشظّي وإعلان التمرد ضد هذا الواقع في محاولة للانتصار والصمود أمام طغيان الخراب وإيقاف زحف هذا الليل الطويل . لقد تشكّلت روح جديدة دمّر جماليتها هذا الانحدار والسقوط في الهاوية . روح متمرّدة امتلكها الشاعر , روح تبحث عن الحرية والانعتاق والسمو , روح حرّة ومتمرّدة امتدت حتى الى لغته الشعرية , فأصبح يبحث عن اللغة المناسبة التي تصوّر وتفضح وتعالج وتبعث الأمل والمسرّات في زمن القحط والجفاف الروحي والإبداعي . فكان من الطبيعي ان يجد الشاعر مادة إلهامه من هذا العالم المادي , وبخياله الخصب يتمكن من بثّ الحياة فيها , وإعادة تشكيل الواقع بصورة أخرى غير واقعية يشبه الأحلام والأساطير , ويؤلف فيما لا يمكن ان يكون تآلف بينهما من مفردات هذا الواقع وقد يجرّدها حتى من المشاعر الانسانية كي يزيد من حالة التوتر والغرابة داخل النصّ الشعري . لذا كان لابدّ لتحقيق ذلك من إيجاد لغة جديدة عن طريقها يستطيع الشاعر ان يبعث الضياء مشعّة خلاّقة إبداعية لا تبحث عن المتلقي إنما تكون كالزئبق تفرّ منه وتبتعد فإذا ما أراد قراءتها ومعرفتها فلابدّ له من استخدام العقل لفكّ شفراتها والكشف عن حرارتها ومصدر الإشعاع فيها . فأصبح الشاعر يجد مادة إلهامه في أبسط الأشياء كـ / الفراشة / الشمعة / الصورة / العطر / الشجرة / كما عند الشاعر كريم عبدالله , لأن الشاعر يسمع ما لم يسمعه غيره , ويرى بعين أخرى ما لم يره غيره , ولهذا فهو قادر على تحويل وخلق عالمه الشعري الى عوالم من الأفراح والمفاجآت الكثيرة والمثيرة ويعبّر فيها الى ما لانهاية عن طريق اللغة الجديدة والخيال الديكتاتوري . وقد يختار الشاعر مادته من هذا الواقع – واقع الحياة الالية والتقنية والتطور العلمي السريع والمذهل نتيجة ما وصل اليه عقل الأنسان . وهذا ما وجدته مؤخرا في نصّ الشاعرة الليبية ( عزة رجب – هروبٌ جماعي من السلّة – وتحت تصنيف – قصائد الكترونية ) , وأعتقد بأنّ هذا سبق اكتشاف لقصيدة جديدة يجب أن يُسجّل باسمها في الوقت الحاضر , فقد استطاعت ربط العالم الواقعي باللاواقعي وصنعت لنا مجموعة من النصوص المركّبة , يجد فيها المتلقي عوالم كثيرة وفسيحة , وصورا غريبة تتجاور فيما بينها وتتنافر , لقد كانت الشاعرة أشبه بالصانع الحاذق الذي يصنع آلته بعناية فائقة . ان تجربة الشاعرة هذه تستحق الأقدام عليها والمجازفة من أجلها , كونها تجربة جديدة في صناعة القصيدة الحديثة , أننا أمام عالم من المفاجآت التي تدهش المتلقي وتبعث في روحه الحيرة والشكّ , عن طريق اللغة الغريبة والمستفزّة واللا مترهّلة , استطاعت الشاعرة حسابها بدّقة في مختبرها الابداعي فكانت كل مفردة تتواجد في مكانها المناسب لا تبعث الرتابة أو الضعف في النسيج الشعري لديها . إنه اسلوب جديد في الرؤية والأداء امتلكته الشاعرة واستطاعت أن تخلق عالمها الشعري بين أشياء من المستحيل أن تتآلف فيما بينها في الواقع او الطبيعة , وخلق رموز لا يوجد أي تطابق بين الرمز والمرموز إليه , وكذلك تشبّه بين أمور لا وجه للتشابه بينها على الأطلاق .
إننا نجد ونشعر بالذات الشاعرة وهي تفترس نفسها بنفسها من خلال هذا النصّ الغريب , متيقّنة بـأنّ قيمة الشعر لا ترتفع الاّ بمقدار بُعده عن كل ما هو عادي مألوف في العالم الخارجي والداخلي على السواء ( لوركا ) , لذا لن نجد هنا لغة مشاعر جيّاشة ولا للطبيعة حيز في هذا النصّ ولا هناك أي ترابط سيكولوجي داخل النصّ , لأنّ هذا النصّ ينبع من الذات الشاعرة لأمتلاكها قوة خيال قادر على التشبيه والاستعارة , فجعلت من مضمون النصّ مشعّا يغمرنا بكل هذا التساؤل والإدهاش والغرابة بعدما استطاعت استخدام / المادة – الآلة ) الجامدة وبعثت فيها من روحها المتعطّشة للحرية والإبداع الشيء الكثير فجعلتنا نعيش معها ضمن هذا العالم السحري الجميل رغم قسوته وكثيرة الحزن الذي سيطر على أجواء النصّ من البداية حتى النهاية . لقد تأثرت الذات الشاعرة بالعالم الاصطناعي أيما تأثر فحاولت ونجحت كثيرا في تسخير هذا العالم لقضيتها وقضية شعبها وقضية الأنسانية جمعاء .
استخدمت الحاسوب ( الكومبيوتر ) وأقحمت هذا العالم الكبير فيه وسخّرت بعض التقنيات العلمية فيه وكذلك بعض أجزاءه من أجل الخلق والأبداع . حينما يداهمنا الخطر أي خطر فأول ما نفكر فيه هو الهروب والابتعاد عن مصدره , وإذا حلّت الكارثة في أرض ما فسيكون الهروب جماعي بالتأكيد , وإذا انتشر الظلم في بلد ما فلابدّ من الهروب أمام قوى الظلام التي قّبَلَ لنا بمواجهتها . هكذا صوّت لنا الشاعرة وطنها بعدما تحوّل الى عالم غير صالح للاستعمال البشري / نفذت صلاحية الحياة فيه / فمثّلته لنا بـ / سلّة المهملات / الموجودة في تقنية الحاسوب , هكذا استطاعت تصوير العمق المأساوي في أرض أنتشر فيها الموت نتيجة الحروب والتطاحن على المكاسب المادية والسلطة , فأصبح أبناءه يحاولون الهروب منه والبحث عن وطن آخر يمنحهم الأمان والكرامة .
. / بعد الهروب الكبير .. / من سلة المهملات / اختبأتُ مع ملفِ/ أقام علاقة ًمع خلية فيروسية / حُبلى بجرائم سابقة .. / . إنّه النزوح والجلاء الجماعي من الوطن – سلّة المهملات – والاختباء مع – ملف – كما هو موجود في الحاسوب من ملفات تستخدم لحفظ ما نودّ حفظه والرجوع اليها وقتما نشاء – الملف هنا قد يكون مكان ما في هذا الكون , لكن المصيبة حتى هذا – الملف – المكان الجديد – مرتبط ايضا بـ / خلية – هو مفردة حُبلى فعلا تدعو للتأمل قد تعني جزء موجود في الحاسوب او قد تكون خلية إرهابية وهذا ما أصبحنا نعرفه اليوم ونتناوله في أحاديثنا بعدما انتشر الإرهاب في أوطاننا – الفايروس : وهو من مسببات المرض تصيب جميع الكائنات الحيّة ولها أشكال مختلفة وبإمكانها البقاء هامدة لوقت طويل ومن ثمّ معاودة نشاطها , وهي عبارة عن كائنات مجهرية لا تُرى بالعين المجرّدة – هكذا هو الإرهاب الموجود الأن , عالم من الظلام يعتاش على القتل والسبيّ وسفك الدماء , لأنّ الجريمة متأصلة في فكره ونشاطه ../ عن أسلاكٍ وهبتْ شرارتها / لذاكرة رقميةِ شاركتْ / أثناء تظاهر البشر في ساحة الآيباد ../ . نلاحظ هنا أيضا استخدام التقنيات العلمية الحديثة في رسم صور العالم الخارجي , هذا المقطع يعتبر مقطعاً متحركاً زاد من الزخم الحركي والإبداعي في النصّ من خلال / شرارة – شاركت – تظاهر / , فعندما ينتشر الخراب والظلم يهبّ الأنسان متظاهراً ضد الطغيان معلناً كلمته – كلمة الوطن – في العيش بأمان وطمأنينة والابتعاد عن الصفقات التي تمزّق الوطن شرّ ممزّق . . / كنت سأدفن حياً / بحجة أنَّ وحدات من الميغا بيكسل /استعمرت مساحات كبيرة / من آراضي الويندوز ../ وهنا تعود بنا الشاعرة إلى عمق التاريخ ولبعض العادات والتقاليد البالية في مجتمعنا العربي حين كان الوأد نصيب للبنات , لقد استحضرت هذه الواقع من الواقع البعيد الى الحاضر القريب لتقول لنا بأنّ الفكر المسيّطر على الوطن هو نفس الفكر الجاهليّ المتخلف من قتل وسبيّ وخنق صوت المرأة ومصادرة حريتها , وبنفس التقنية والتكنيك تستخدم مصطلحات من التقدم العلمي وتبثّها داخل نسيج النصّ وتربط بينهما على ارض الواقع بطريقة ذكية ومحببة ورائعة . وبطريقة ذكية تهيّئنا لتلقي الصدمة في النصّ وتقبّل الفكرة فيه واستيعابها من خلال هذه العبارات ../ و لحسن الحظ / أنَّ أحد المشاهد ظهر فجأةً / قبل المسح النهائي ../ . وهكذا استطاعت الشاعرة إعادتنا فجأة الى ارض الواقع عن طريق قصة الجندي – دلالة عن الحرب والموت والصراع ما بين البقاء والفناء – بلغة مثيرة ../ كان يحكي قصة جندي / وجدوه ميتاً وفي يده / أندرويد صغير / يبثُ فيديو لصور حبيباته / اللاتي راقصهن ليلة / ذهابه للحرب…./ .
من خلال هذا النصّ الألكتروني لم نجدّ أنفسنا نعيش على أرض الواقع وإنما كنا نعيش داخل جهاز الحاسوب ونتحرك في عالمه , لقد كنا نعيش القلق في عالم رهيب مخيف , عالم شعريّ متوتر ينفجر ما بين لحظة وأخرى مليء بالرموز العلمية المتنوعة سيطر على مشاعرنا وأذهاننا , عالم امتلك من الشعرية الشيء الكثير , ومن خلال هذه التجربة الجديدة في كتابة القصيدة , أتمنى الالتفات إليها وتسليط الضوء عليها علّنا سنحضى في قادم الأيام بقصيدة نثر ترتقي إلى العالمية .
النصّ
هروبٌ جماعي من السلّة
بعد الهروب الكبير
من سلة المهملات
اختبأتُ مع ملفِ
أقام علاقة ًمع خلية فيروسية
حُبلى بجرائم سابقة
عن أسلاكٍ وهبتْ شرارتها
لذاكرة رقميةِ شاركتْ
أثناء تظاهر البشر في ساحة الآيباد
كنت سأدفن حياً
بحجة أنَّ وحدات من الميغا بيكسل
استعمرت مساحات كبيرة
من آراضي الويندوز
و لحسن الحظ
أنَّ أحد المشاهد ظهر فجأةً
قبل المسح النهائي
كان يحكي قصة جندي
وجدوه ميتاً وفي يده
أندرويد صغير
يبثُ فيديو لصور حبيباته
اللاتي راقصهن ليلة
ذهابه للحرب….
ــــــــــــــــــــــــــــ