عمان – صحيفة آفاق حرة الثقافية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جدّي الأوّل ابن آدم فكّر كثيرًا في ملاحظة، ومتابعة ظلّه على مدار زمان طويل؛ فحفظ مؤشّراته، ودلالاته على وقت ابتكره لنفسه، تبعًا لحركة الشّمس التي هي أمُّ الظلّ، وضياؤها أبوه. أعتقدُ جازمًا أنّ مغامرة جدّي انطوت إصرارًا للّحاق بالزّمن، ومحاولة القبض عليه. لتنتهي حكايته الزمانيّة بالموت الذي لم يكن مُصادفة، لأنّ وجوده أصبح سلبيًّا بالنسبة للأحياء بتناقضه معهم، وكل اتّصال ينتظره انفصال حتمًا. بينما الطّيور التي تولد في الأقفاص تعتقد أنّ الطّيران جريمة. وربّما الجهات تبثُّ خبرًا صادمًا: “أن لا عيون للبوصلة”.
وما الفائدة من مخاطبتي لظلّي، إذا بدا لي، وساءلته عن حالي..!!. يبدو أنّ الظلّ هو النسخة المُزيّفة عن ذوات حقيقتنا، وبسواده لم يعط عنّا إلّا الجانب السّوداويّ، ولولا النّور لما خُلقّ الظلّ، وهو آية من آيات الله.
يتّضح المعنى هذا بقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) (45\سورة الفرقان). ومدّ الظلّ يبتدئ مع أوّل خيوط الفجر إلى غياب الشّمس، ولو شاء لجعله دائمًا لا يزول, ممدودًا لا تُذهِبه الشّمس, ولا تُنقصه ولا تُزيله. )ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا( أي أنّها أخرجت ذلك الظل فذهبت به، وقوله تعالى: (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) ثم قبضنا ذلك الدّليل من الشمس على الظلّ إلينا قبضًا خفيًّا سريعًا بالفيْء الذي نأتي به بالعشيّ.
بعد هذه المقدّمة أعود لموضوع دراستي، مجموعة (خطيئة الظلّ)، فالعنوان عتبة المجموعة بدلالاته الخفيّة، وبإشكاليّة دلالته، الخطيئة إذا كانت جريمة مُقترفة بحق كائن؛ فصاحبها مُجرم، وإذا كانت ذنبًا بطريق الخطأ بحق الله مثلًا؛ سيغفره الله لعبده إذا تاب بنيّة عدم العودة إليه، إذا كان بحق شخص لابدّ له من الاستسماح، وطلب الصّفح.
بينما في حالتنا فمن اقترف الخطيئة هو (الظلّ) الوهم الذي نتوهّمه أنّه شكل جديد لنا، رغم أنّه شيءٌ آخر تمامًا، لأنّه وهْمٌ وزيفٌ، وهو صورة مُشوّهة عن الحقيقة المُنعكِس عنها، ولا يمتً لها بصلة أبدًا.
فلماذا لجأت الكاتبة للظلّ، وقرنته بالخطيئة؟. تساؤل جدير بالتوقّف عليه، حينما نعلم أن المجتمع المُحافظ يعتبر المرأة المُتعلّمة جريئة وخطيئة، فما بالك إذا كتبت كلمات تُعبّر فيها عن أشياء خفيّة في نفسها، وتُفصح فيها ذاتها. أعتقدُ هنا أنّها لجأت للظلّ لتقترف خطيئة الكتابة بمفهوم يضيق ذرعًا بمفهوم المرأة الشّاعرة، رغم تناسي (الخنساء، وليلى الأخيليّة، وليلى العامريّة، وعائشة التيموريّة، فدوى طوقان، نازك الملائكة) هذا على سبيل المثال لا الحصر. قلم تكنّ الأديبة (أماني المبارك) بدعًا عن هذه الطّائفة من النسويّة التي فاقت كثيرًا من الرّجال.
رمزيّة السّماء:
*(في فضاء الأنوثة مجهر قلبي) ص15، وبشكل عام فإن الفضاء دالٌّ على السماء لاتّساعها، الذي شبّهت به فضاء الأنوثة بالسّماء.
*(باشتعال ارتعاشات الدخان، تلفني حلقاتها) ص15، والدّخان لخفّة وزنه يتصاعد إلى الأعلى، وسُحُبه تتبدّد في السّماء الفسيحة.
*(إلى مجرة دمعك) ص16، والمجرّة لما فيها من الكثير من الكواكب والنّجوم، كـ(درب التبّانة) هي من لزوم السّماء، التي تحتوي على مجّرات أخرى.
*(باتت طبول تقرع في المحراب) ص17+ (كصوفيّ ردّد تراتيل الهوى)+ (أغض البصر عن المناجاة) ص23. بالتوقّف أمام كلمات (المحراب، تراتيل، المناجاة) فهذه من صفات المؤمنين والعُبّاد والزّاهدين، وبأدعيتهم هذه يتوجهون فيها لربّ السماء، بنيّة يقين الاستجابة.
*(لا ظلّ يحتويه سواها) ص27. والظلّ هو انعكاس أو الوجه الآخر السفلي للسماء.
*(أغادر باب السماء، أصيّرني قطرة لعتبة غيمة لا تهطل) ص29. بالتأمل بكلمة (قطرة، غيمة، تهطل)، هذه الكلمات إعلان عن السّماء القادمة منها.
*(يأخذك أديم الأرض، كيف خفق أرواحًا بلون الحنطة) ص30، وأديم الأرض هو الوجه السّفلي للسماء، وخفق الأرواح إلى خالقها في السماء.
*(حرف سماويٌّ.. دهشته كزرقة البتول) ص32+ (هناك حلم يلوح في أفق المواني)، والأفق كذلك جزء من السماء.
*(تذكّر أوّل طفلة حَبَتْ نحو النّور، تعانقُ جرائد السّماء) ص33. الخليقة كلّها منذ البدء، ومع بداية تفتّح وعي المولود عيونه لا تترك التطلّع إلى السّماء أبدًا، وهذه من المشاهد المخفيّة خلف التعابير الشعريّة عند (أماني المبارك).
*(تذكر آخر القصيدة التي أشرقت بلون الشمس، وتجمّلت كالبدر، تحولت إلى مجرّة تناقضات) ص34. (الشمس، القمر، المجرّة)، وهي آيات عظمي من آيات السّماء.
*(أرهقها الغياب، وأسقطها في فم المطر، على رمش القمر) ص36. ومثل ذلك (المطر، القمر).
*(على طاولة أعمارنا المثقلة بالشقوق.. لحظة غروب) ص38. والغروب والشروق من لوازم تعاقب الليل والنهار، وكل فعلهما يبتدئ وينتهي بفعل دوران الأرض حول نفسها، وظهر الشمس على أجزاء من الكرة الأرضية، وغيابها عن أجزاء أخرى.
(في توقيت ساعتها الرملية، يقلبها القدر ثانية) ص44. والساعة الرملية لزوم الزمن وحساباته، وهي نتيجة حتمية لحركة الكون وتعاقب الليل والنهار.
هذه طائفة م الأمثلة جئت بها تدليلا على رمزية السماء في مجموعة (خطيئة الظلّ)، وليس على سبيل الحصر.
التناصّ القرآني:
كثيرًا ما يلجأ الأدباء للاستعانة ببعض المعاني اتّكاء على بعض النصوص القرآنيّة أو الأحاديث النبويّة الشريفة، أو بعضًا من أقوال العظماء والقادة في العالم القديم والحديث، بإعادة تدوير المعنى؛ لإنتاج معنى آخر جديد يتناصّ مع الأساس الذي قام عليه، بما يضفى ناحية جماليّة للقصيدة. ومقابسة بين الماضي ليكون طريقًا للنهوض إلى المستقبل. وللخروج من قوالب شعرية رتيبة.
*تقول: (لقارئة الكفّ التي تخبرني: عن امرأة بلاد الحنطة). ص32+ (هكذا تكون امرأة التعاويذ) ص27= فهذه العبارة: (كذب المنجّمون ولو صدقوا)، ليست آية ولا حديثاً، وإنما هي من العبارات الصحيحة المعنى، التي اشتهرت على ألسنة الناس، وتتوافق مع مفهوم الإسلام لعمل المنجمين بمطالعة الغيوب.
*تقول: (النساء المعتكفات في عباءة الكيد) ص22= وفي قصة نبيّ الله يوسف عليه السلام، وما حدث من كيد امرأة العزيز، بمراودته عن نفسها، فاستعصم، عندما همّت به، التّناصّ مع الآية الكريمة: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ، قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ، إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (سورة يوسف 28)
*تقول: (تكوّرت كالعرجون القديم) ص39= التّناصّ مع الآية الكريمة: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (سورة يس/39) بمعنى أن القمر إذا سار في منازله، وكان في آخرها دقّ وتقوّسَ وضاقَ، حتى صار كالعرجون القديم، وهو العرجون هو العذق اليابس المنحني من النخلة.
*تقول: (وربّ الفجر) ص42= التّناصّ مع الآية الكريمة: (والفجر.. وليالٍ عشر) (سورة الفجر 1و2)، قسم بالفجر وعشر ليال من ذي الحجة. وإذا أقسم الله بشيء لإظهار أهميّته في الكون والحياة.
*تقول: (والقلب إذا انفطر) ص52= التّناصّ مع الآية الكريمة: (والسماء إذا انفطرت) (سورة الانفطار 1) أي انشّقت.
*تقول: (اقرأ واقترب) ص74= التّناصّ مع الآية الكريمة: (واسجد واقترب) (سورة العلق 19).
*تقول: (وأنت تقترب من صلصالي) ص80= التّناصّ مع الآية الكريمة: (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (سورة الرحمن 14). والصلصال هو الطين، أو الطين اليابس.
*تقول: (في ليلة مباركة ليلَكِيّة) ص91= التّناصّ مع الآية الكريمة: (إِنَّا أَنـزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) سورة الدخان آية3، أقسم جلّ ثناؤه بهذا الكتاب, أنه أنـزله في ليلة مباركة، وهي ليلة القدر (إنّ أنزلناه في ليلة القدر).
*تقول: (كأنها السراب) ص97= التّناصّ مع الآية الكريمة: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (سورة النور39).
*تقول: (لا أنتَ تُزَمّلَني) ص106= التّناصّ مع الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) (سورة المزمل 1+2) وهو المتزمّل في ثيابه، ومثله في ذلك المعنى ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (سورة المدّثر 1) يا أيها المتدثر بثيابه عند نومه. وتذكيرنا بقصة النبي مع زوجته السيدة خديجة عند عودته من الغار خائفًا، عند مجيء الوحي جبريل له بالرسالة، وأمره بالقراءة، بقوله: (اقرأ)، فردّ النبيّ: “ما أنا بقارئ”.
وفي النهاية فإن مجموعة (خطيئة الظل) للأديبة (أماني المبارك)، مليئة بالجماليّات اللغويّة بتراكيبها، والصّور الشعريّة والتشابيه، وهناك من النصوص القويّة التي بحاجة لدراسات نقدية مستفيضة؛ للإحاطة بالجوانب المشرقة، والمضيئة؛ للتوقّف على أعتباها واستخلاص جماليّاتها، وتقديمها للقارئ. وهي مجموعة مثقفة عميقة الغور في أعماق التاريخ ودروسه، والواقع ومآسيه بعين حاذقة واعية.
عمان – الأردنّ
ــا19\ 7\ 2020