الناقد المفربي أحمد وليد الروح يقف على نص ( يا قلب ) للكاتب محمد صوالحة

يا قلب
******** محمد صوالحة
أنثر نبضك
ياقلب
وتسرب في تلك
الأرض المعشوقة
ارو جذور التينة والزيتونة
وامسح من عين الرمان
دموع الحزن
يا قلب
تلك الأرض تناديك
لترو
سيرة ذياك الضوء
الراحل
تؤثث ذاكرة الليل
القادم
وتنقش فوق جبين
الفجر سيرة
رجل
كحل بنظرته عيون
الفجر
وغاب

تحمل القصيدة من الرقة والعذوبة ما لا يمكن تصوره، وحده العنوان “يا قلب” يخفي بين طياته الكثير من الأحاسيس والمشاعر الدفينة. فهو تركيبيا يحيلنا على جملة النداء، أما دلاليا فهو يوحي بأن الشاعر ينادي قلبه من أجل تحقيق قيمة ما أو غاية معينة .
لقد حدد الشاعر بداية من العنوان طبيعة وأبعاد المسافة بينه وبين قلبه، فهو يتنقل في القصيدة عبر مسافة محدّدة لم يحدد مكانها ولا زمانها لكنه حدّد أبعادها. وهذا التنقل طبعا لا يمكن أن يكون إلا في إطار زمني ومكاني وإلا فلن يكون. هكذا يتنقل الشاعر عبر خطابه لقلبه قاطعا المسافة صعودا ونزولا، وهو ينادي “يا قلب” نحس وكأن أنفاسه تنقطع، مسافة ليس لها مقياس محدد، تطول عبر المسافة الزمنية التي يقطعها في خط الطول راجعا للوراء للماضي البعيد. لهذا استعمل الشاعر محمد صوالحة أداة النداء “يا” فهي تستعمل للقريب والبعيد، فقلبه قريب ينبض داخله لكن الذكريات بعيدة بعد المسافة التي تفصله عن غائبه، مسافة تُحسب بالخط الممتد بين الحياة والموت. فالمسافة تطول بطول المشوار الزمني الذي قطعه الشاعر رفقة حزنه الذي لا يكاد يفارقه وتضمحل عندما يخف هذا الثقل أو الإحساس العميق بالحزن الذي يسيطر عليه.
ينادي قلبه بلغة الآمر، يأمره بشدة أن يفعل كثيرا من الأشياء ربما يقابلها القلب بالرفض وعدم الإكثرات. هكذا يمكننا تحديد المسافة بدقة فهي خط ممتد بين الفضاء التصوري المعقلن للأشياء “الأفكار” إلى الفضاء الإدراكي”العقل” وبعدها إلى فضاء أرحب وأوسع” الأحاسيس” وهي التي تدرك بالقلب.
فهو عندما ينادي “يا قلب” يكون زمنيا غير متحرك، ومكانيا متحرك فهو ثابتٌ في حركته متحرك في ثباته، ثبات فيزيولوجي لكن ذهنيا وعاطفيا متحرك.. وفي هذا النص ليس هناك وجود فعلي وصريح للزمن بغض النظر عن اللحظة الزمنية الشعورية التي قيل فِيهَا، إذ أن زمنه الشعوري ممتد إلى ما لا نهاية. ينطلق من جملة النداء إلى أفعال الأمر التي تضمن للزمن إمكانية الإمتداد و الإستمرارية داخل منظومة الوعي الإبداعي والإدراكي متأرجحا بين العقل الآمر والقلب الرافض.
يطلب من قلبه أن ينثر نبضه بذورًا ويتسرب داخل معشوقته الأرض.
الخطاب جاء بصيغة الأمر ما يدل على سلطة العقل العليا التي تحاول التحكم في القلب والسيطرة عليه لأن هذا الأخير لا يمتثل للأوامر. ولو كان يدعن لسلطة العقل ما كان الخطاب بلغة الأمر. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هل كان هناك من قبل عدم وفاق بين القلب والعقل؟ هل كان القلب من قبل هكذا، ثابتًا، ساكنًا وغير متحرك؟ بمعنى أنه أغلق على نفسه ورفض مسايرة الأحداث، إذ لا يتحرك إلا متقلبا على جراحه، تُلهبه أوجاعه و تضنيه أحزانه..؟
نحن هنا نسير فوق خط العرض الذي يشكل خط التقاطع مع خط الطول الذي يشكل مسافة الوعي اللامدرك بين العقل والقلب، فالعقل لا يدرك حجم الضرر الذي تعرض له القلب ومازال يتعرض له في خط زمني غير محدد ومسافة لا تنتهي فهي تمتد بامتداد الزمن وتتسع باتساع رقعة الأحداث وما تشتمل عليه من أفراح، هموم وأحزان.
فالقلب من قبل كان ينثر نبضه بذورا تنبتُ، ويرويها بفرحه وسعادته التي كانت تملأه فيملأ الأرض فرحًا ويزرعها أملًا… لكن ما به الآن لا يفعل ذلك ويحتاج لمن يأمره كي يفعل؟
قلب يحمل من التراكمات الكثير ومن الهموم و الأحزان ما لا يمكن لعقلٍ تصوُّره، لكن العقل لا يدرك كل هذا هو فقط يمنطق الأشياء بطريقة حسابية لا تعرف المشاعر.
الشاعر في هذا النص يتنقل في خطابه منطلقًا من صور بلاغية يكوِّنها داخل عقله إلى بلاغة المشهد الَّذِي يرسله في شكل أفعال أمر، آمرًا مُشدِّدًا على القلب أن يفعل ما يأمره به. إذ تتلاحق المشاهد بتوالي الأفعال وتلاحق الأوامر فنجده يأمره أن يروي جذور التينة والزيتونة. اختار التين و الزيتون لقيمتهما الكبيرة فقد ذكرا بالقرآن، وشجرة الزيتون تعبر عن المقاومة و الصمود و لها قدرة خارقة على التكيف مع متغيرات المناخ ومهما كانت الظروف قاسية تستطيع التأقلم والعيش، فهي دائمة الإخضرار لهذا استخدمت كشعار ورمز للسلام. وشاعرنا متعب ومنهك مهموم ولن يجد سلامه الداخلي إلا من خلال هذه الشجرة المباركة التي لها بليغ الأثر بنفسه و إلا ما كان وظفّها بهذا النص. والتين والزيتون مقترنين معا بهما شفاء، فهما دواء وشِفَاء لشاعرنا، شفاؤه لن يكون إلا بالأرض و من خيراتها. أما الرمان فلم يأتي الشاعر على ذكره إلا لغاية كبرى، فهو فاكهة من فواكه الجنة، وكأن العقل هنا يغري القلب بجنّته التي سيجدها إن هو أدعن له وفعل ما يطلبه منه.
هكذا تتسع خاصيات النص وتتكثف باتساع رقعة المشاعر وشدة الضيق الذي يثقل صدر الشاعر فهو يخاطب نفسه معلنا ضمأه للأرض يقابله تعطُّش هذه الأخيرة لنبضه، حُبِّه واهتمامه، ضمأها لذاك الغائب الذي ذهب وتركها وإن دُفِن بتراها، ضمأ لتلك البذرة التي تركها وراءه وتأبى أن تُنثٓر فيها. فأبدًا لن تعرف هذه الأرض الحياة والسلام ما لم يسعٓ هو (الشاعر) لسلامه الداخلي، سلام لن يكون إلا من خلال الأرض، بها وفيها..
في هذا الخطاب الشاعر لا يعول على عقله وحده ولا ينتظر من هذا الأخير أن يفهم قلبه أو قلبه أن يؤثر بعقله لكنه يجد نفسه هكذا في تركيبة لا واعية منه يعي بأن عليه أن يهتم بالأرض ويرعاها فهي أمانته التي عليه أن يحملها من بعد والده رحمه الله، عليه أن يكون جديرا بهذه المسؤولية و أهلا لحمل هذا الإرث الثمين (الأرض) ولا يسمح للحزن أن يأخذه بعيدا عنها أو عن نفسه.
أنثر نبضك
ياقلب
وتسرب في تلك
الأرض المعشوقة
ارو جذور التينة والزيتونة
وامسح من عين الرمان
دموع الحزن
القصيدة تُعلن عن حزن الشاعر المتواري خلف باب قلبه الذي أغلقه في وجه أي فرح أتٍ ، قلب يعاني الكثير من القلق. منذ غادره ذلك الغائب وهو مهموم قلق، أثر به الموت كثيرا بشكل خاص لكن مجريات الأحداث الراهنة والوقائع بوطنه وكذلك بالوطن العربي جعلته ليس مهموما فقط بل يكاد يختنق من فرط الحزن. قلق وحزن لا يخصه وحده بل قلق كل الشعوب العربية، و هٓمٌّ ازداد واشتد أكثر.. لم يعد المواطن العربي قادرًا على فهم ما يحدث ولا هضمه خصوصا بعدما كثرت الأزمات واشتدت وضاق عليه الخناق، أصبح محروما من كل الأشياء العادية والطبيعية التي كان يملكها ويقوم بها بيسر و دون عناء. قُيِّد تفكيره وحركته وتغير نمط عيشه وضاقت عليه الدنيا وسُدَّت في وجهه الأبواب. أصبح يفتقد الهدوء والراحة، الأمان والسلم والسلام.. الكرامة والحريّة..
كل هذا صاغه الشاعر في إطار زمنية وظرفية مُطلقة للنص فهو يتسع في أفق اللازمنية ما يضمن له الديمومة والإستمرارية، إذ يشمل الخطاب الماضي والحاضر معا وأيضا المستقبل الذي يراه الشاعر مظلمًا “تؤثث ذاكرة الليل.. القادم” مستقبل ليس بالبعيد عن فكر الشاعر وتنبؤاته، فهو يبعد بمسافة زمنية ليست بالطويلة تفصله قليلا عن ذكرياته بالماضي القريب ذكريات تستدعيها الذاكرة في شبه إيحاءات مشرقة داخل فراغات زمنية مطلقة، تمتلئ بها الذاكرة، تُخزّنُها لتفريغها فيما بعد في قوالب أمنيات يسعى لتحقيقها واستعادة ما مضى بالسير بنفس طريق من غاب وابتعد تاركا في نفس الشاعر فراغا من تيه، فهو لا يستطيع عيش حاضره ويتخوف من مستقبله ويتهرب من ماضيه بتقمص شخصية “ذياك الراحل” و كأننا بالشاعر لا يريد إكمال عمل أبيه فقط بل وكأنه يحاول أن يُصبِح هو في شخص والده رحمه الله يتكلم بكلامه ويفكر بعقله ويتصرف بتصرفاته، كيف لا يفعل وذلك وهو الذي أنار حياته ومازال ينيرها وإن إنطفأ نوره الآن، إلا أن الشاعر يأبى لذلك النور أن ينطفئ ويسعى جاهدا في الحفاظ على ذِكره و سيرته بالحفاظ على إرثه الموروث “الأرض” فيقول:
تلك الأرض تناديك
لترو
سيرة ذياك الضوء
الراحل
تؤثث ذاكرة الليل
القادم
وتنقش فوق جبين
الفجر سيرة
رجل
كحل بنظرته عيون
الفجر
وغاب
فهل فعلا الأرض تناديه وتشتاق له أم هو من يحتاجها ويشتاق لها اشتياقه لحضن ذاك الراحل عن الدنيا القابع بالذاكرة، الساكن بالقلب، رجل كان له الفضل في وجود الشاعر وتنشئته التنشئة الصحيحة، بدونه أسودت الدنيا وأصبح قادمه ليلا مظلما بعدما كان فجرا مشرقا وحياة زاهرة متفتحة. فقط اعتناؤه بالأرض سيخول له الحفاظ على سيرة والده وتخليد ذكراه .
ومهما أمر العقل القلب، ومهما حاول الشاعر من جهته المضي قدما والسير في طريقه مخلّدا ذكرى ذاك الرجل العظيم، رجل يحمل النور ويكحل بنظرته عيون الفَجْر.. إلا أنه لم يستطع تجاوز معاناته، همومه وانفعالاته وكل مشاعر الْحُزْن التي تسيطر عليه بعد فراق والده.
تكثر معاناة الشاعر ويكبر همه ولا يستطيع سوى مقاسمتنا أحزانه في هذا النص معبرا عن همومه وهموم كل من يعاني نفس معاناته. هكذا يتجاوز النص هموم ومعاناة الشاعر إلى هموم المجتمع أيضًا. فالأرض لا تمثل إرث الشاعر فقط بل تمثل كل الوطن العربي خصوصا عندما نجد ذكر التين و الزيتون بالنص، فقد تشير للأردن، أو فلسطين أو لبنان، أو سوريا… فالأرض تنادي و العقل يأمر و القلب مجروح حزين.
حقّق النص انسجاماً في بنيته الفنية، مشتغلا على المضمون ومعانيه سواء الخاصة أو العامة في نقلة خطابية لا تستدعي بناء زمني أو مكاني محدّد، إذ يتشكل النص في إطار لآزمنية النص، فهو صالح لكل زمان ومكان، مما يستدعي جذب المتلقي و شدّه لَهُ، وكأنما كُتِب هذا النص له ومن أجله تعبيرا عنه، عن همومه، معاناته وأحزانه. فإن كان الزّمن يُقَاس بالثواني والدقائق والساعات .. السنوات.. فإن زمن النص يختلف عن الزمن الحقيقي فهو يقاس بالمسافة الزمنية التي يقطعها العقل في شكل إشارات و ذبذبات يرسلها العقل للقلب. ويمكن اعتبار المكان القلب وما يحتويه (الأرض = إرث الأجداد) في المفهوم الخاص أو الوطن سواء الصغير (الأردن) أو الكبير ( الوطن العربي). هكذا تعبر المسافة عن الزمن البعيد أو القريب، عن التيه، البعد، الفقد والغياب.

.. وتلك هي المسافة الزمنية التي تفصل بين قلب الشاعر وعقله

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!