لصحيفة آفاق حرة
***************
في إنجاز أدبي جديد، يضاف إلى الرصيد السردي المتنامي، للكاتب اليمني المعروف، الصديق ناصر الوليدي؛ صدر كتاب (بين الأنهار الخمسة) كإضافة أدبية نوعية. وذلك عن دار روائع للنشر والتوزيع بجمهورية مصر العربية.
الكتاب الذي يقع في ٣٦٨ صفحة من القطع الصغير، بغلاف أنيق تتوسطه صورة لمنارة باكستان التاريخية، كعتبة أولى يدلف منها القارئ لمحتوى (يؤطلس) القارة الهندية بحروف سردية رشيقة؛ هذا الكتاب يعد رافدا (معلوماتيا) كبيرا جدا للقارئ العربي، بل بساط سحري لك أن تمتطي سطوره كلما هزك الإنتماء، وشوق المعرفة الدقيقة لتفاصيل بلد إسلامي انفرد بامتلاك سلاح الردع النووي، وتسليح جيشه العظيم من الدبابة إلى طلقة المسدس من المنتوج الصناعي الوطني!.
إذا استوقفتك ثقافة الكاتب الواسعة حول القارة الهندية عموما، بسلمها وحروبها، بثقافتها واقتصادها، بتركيبتها الدينية والعرقية والمذهبية المعقدة، وأدهشتك، فسيستوقفك ويدهشك أكثر تمكن الكاتب من أدواته اللغوية والسردية، وقدرته على عرض مشاهده بدقة تمنح القارئ فرصة التمتع بالنظر شبه الحي، وملامسة الأحداث، والتفاعل معها عبر أسلوب خاص في عرض المواقف وتحريك الكلمات.
الكتاب الذي يصنف ضمن أدب الرحلات، يأخذك في رحلة ذهاب وإياب، من منزل الكاتب في منطقة السفينة بمدينة عدن، عبر رحلة برية لا تنقطع متعتها أبدا ولا تنتهي، وإن كانت ستنتهي بالقارئ بريا في سلطنة عمان التي يستقل منها طائرة الخطوط الجوية القطرية من مطار مسقط، إلى مطار الدوحة، ومنها إلى مطار العلامة محمد إقبال بمدينة لاهور، حيث تُلقى عصا الترحال، وتأخذ عين الأديب الحساسة مهمتها في رصد أبرز تفاصيل الحياة الاجتماعية، والزراعية، والحضرية الباكستانية، وأهم معالم هذا البلد الإسلامي المترامي الأقاليم!.
ومن خلال عدسة الوليدي الاحترافية سيطوف المشاهد/ القارئ معظم أقاليم الباكستان من إقليم خيبر بختون خواه شمالا، إلى إقليم السند جنوبا، ومن إقليم البنجاب وسط البلاد إلى إقليم بلوشستان غربها، حاصدا ثراء معرفيا كبيرا، ومتعة سياحية لامتناهية.. ليعود بعد ذلك في خط معاكس، من باكستان إلى عدن دون أهمال لتلتك الإلتقطات الإنسانية الممتعة في بعضها، والمؤثرة في البعض الآخر.. وهنا أتوقف قليلا أمام مشهد مؤثر في هذه الرحلة، لأقول: إن تنمحي من رأسي أكثر المشاهد السرد تأثيرا خلال هذا العام، فإنه لن ينمحي بسهولة ذلك المشهد البسيط الذي ينقله الكاتب من مطار صلالة عندما التقى شاب وأمه في إحدى غرف لانتظار هناك.. لقد تأثرت جدا وأنا أتحسس لوعة الشاب على حياته الموعودة بالفناء باكرا، وقد كشفت الفحوصات الطبية إصابته بالسرطان، إضافة لدموعه وكلمات أمه الحانية، وخيال وجهيهما في ذلك الموقف المحزن الكئيب..
أجواء هذه المشهدية المؤثرة لم تزُل عن ذهني أبدا، بل أنها أدخلتني في حالة من الإكتئاب لا أدري هل كنت سأتشتعرها بنفس العمق لو رأيتها حقيقة، أم أنها زوايا التصوير الأدبي وتقنياته التي تعمّق الإحساس بالمواقف الإنسانية، فتجعل تأثيرها مضاعفا.
الحقيقة أن ما سيستوقف القارئ في هذه الرحلة أن الكاتب يجمع مستويين متباعدين من الرصد، فيضفرهما في جديلة سردية فريدة. فبين المعقد الصعب في شرحه وفكرته، السهل في كتابته من جانب؛ والصعب في كتابته البسيط في فكرته؛ نجد التماهي الذي لايتأتّى بسهولة إلا لعقل واسع الإطلاع، وقلم جموح روِّض بصبر وطوّع طويلا حتى أذعن وأسلسل القياد لصاحبه.
وإلا فبأي أداة سنجد الكاتب يأتي بالمعلومة الكبيرة عن البلد الذي يزوره فيشرحها من أبعاد كثيرة، ويعلق عليها بلغة الخبير، وعمق الباحث المتضلع، ثم ينسل بمنتهى الرشاقة والخفة، ليجلس مع كهل هدته السنون، وبدقة وصفية مدهشة، يجلسك معه ليجعلك ترى الشعرات القوية تتحرك في لحيته البيضاء مع تمتمات تسبيحه، وقرقعة حبات المسبحة وهي تدور في كفه الخشن؛ ترسا يرفعه إلى ملكوت السماء..؟!
إنها الأداة الفعالة في جمع خصائص وعناصر اللغتين وتأليفها عقد كتابيا واحدا.
الوليدي الذي يطل علينا مجددا من خلال هذا الكتاب بعد أن رفد الساحة السردية بمجموعته الفاتنة (كرستيانا الفاتنة) لديه العديد من الكتابات والأعمال التي يترقبها قراءه كـ(أشواق مكة)
(عن السلطنة الفضلية)
(في رحاب دثينة)
(ليالي القاهرة)
و(هكذا قال محمد)
يذكر أن الكاتب ناصر الوليدي بجانب كتاباته السردية، هو من الأسماء المعروفة بنشاطاتها الفاعلة في توسيع قاعدة الوعي الاجتماعي حول الكثير من القضايا المحلية، واسهاماتها المميزة في المجال الاجتماعي بشكل عام.
مبارك للمكتبة العربية واليمنية بشكل خاص، هذا الإنجاز الرائع، ونتمنى أن نرى المزيد من هذه الأعمال المهمة التي تمد جسور التواصل الثقافي بين الثقافات الإنسانية المختلفة، أولا وتعزز روابط التاريخ والهم المشترك، بين أبناء الأمة الواحدة ثانيا.ثم أنها تجمع للقارئ متعة السياحة (الأبجدية) وقيمة وفائدة المعلومة.