إلى : دخيل خليفة
مثلما نكتشفُ أننا غارقون بالطَهر ،
أو ضالعون بالإثم ،
فنلجأ إلى الصلاة ، أو إلى الخمر ،
لكننا عندما نفلتُ ، كالطيور ، من أسْرِ اضطرابنا ، نقصُّ اجنحتنا ، ونعودُ إلى أقفاصه نادمين ..
مثلما يولد الواحدُ منا ،
فيجد نفسه في ضجة العالم ، دون مشورة ، أو دون سابق معرفة ،
فنصطدم بالجدار .
مثلما ننقذفُ من العدم ، لنبحثَ عن ذواتنا ،
ومن حولنا ملائكة تحصي حصتنا من الهواء .
مثلما نكتشفُ حريقا في أرواحنا ،
ولا ندخل أو نخرج منه .
مثلما نقف والعمر يمشي ، بلا قدمين ، إلى حيث يطول وقوفنا .
مثلما يطحننا الحزنُ ، فنلجأ إلى الحب ، إلى الخمر ، أو إلى الغناء ،
ثم لا نريد أن ينتهي هذا ،
لأنه خندق نحتمي خلفه من بشاعة أوجاعنا ..
كلما أسَرْنا أغنيةً تَفرّقنا ،
في طرق الليل ، بحثا عن حنجرة تواسيها .
يطحننا الشعورُ بأن شيئا ما ليس على ما يرام ،
فنرمي إطلاقاتنا على عدو لا نعرفه ،
وكلما أصبناه ،
وجدنا أنه متأهب إلى القفز ،
من دواخلنا .
كلما أسَرْنا عصفوراً بكينا ، خفيةً ، عن بعضنا البعض ،
وأطلقناه ،
ثم تزاحمنا بالمناكب ،
عند الباب ،
كي ندخل مكانه إلى القفص .
كل امرأة صحنا بها : ” يا شجرة ” ،
تسلقنا إلى حيث ثمارها ،
التهمنا حلمتيها ،
ترنحنا من السُكر من فرط عصافيرها ،
ثم كسرنا أغصانها ،
وانكسرنا .
الويل لنا !
أقمنا هنا ، و مازلنا هناك ، ولن نكفّ .
لن نكفّ أنّ نضعَ الرأسَ على الكتف ، ونمشي به إلى المشنقة .
لن نكفّ أن نكون في المقدمة ، ونُضرَبُ من الخلف .
تتجلى أحزاننا على هيئات غامضة :
هي طيورٌ، أحيانا
وأحيانا أخرى ليست طيورا ولا عاصفة ،
فنكتب الشعر عسى أن نعرفها .
لن نعرفها ، نحن الشعراء الذين نعرفُ .
نحن الذين لا نعرفُ ما هذا ، لكن اشارتنا إليه تتضمنه .
نحن الذين نعرف أن القليل الذي نعرف يكفي ، لكن كفايتنا هي الشهيةُ :
نحن المرضى بالشفاء ، وبالنوم على مصاطب السهاد .
وأنا منهم .
أنا من أولئك ،
لكنَّ هؤلاء يظهرون ، بغتة ، في القصة .
أنا من مدنٍ منهوبة ،
وبلادٍ تغتال أحلامها ، وهي تسير إلى الوراء .
أنا من شجرة يتسلقها العراء ، ومن نبع يسيل منه الدم .
أنا دفتر الذنوب التي ارتكبها سواي
أنا صفحاته الممزقة .
أنا فراشة تهرب من شعاع يخنق قنديله ، وينتمي لطيشِ الظلام .
أنا من بلاد هي سلّة تحمل النبيَّ إلى الأعداء ،
أنا موجة في نهرٍ يقلب قواربَ مجراه
أنا ملاك تائه يبحث ، في الخرائب ، عن صليبه
أنا حضارة ترجمها المعرفة بالحجارة
أنا تمثال الحكمة
يجمع أوصاله من القمامة
أنا ريح تشنق الهواء ، وتحبس انفاس النوافذ
أنا يقظة الدخان في وطن يشتعل
أنا حانة اللصوص ،
ومائدة يأكل منها الجميعُ لحمَ الجميع .
حين صعدتُ إلى الحب لم أجد أحدا ،
ولمّا نزلتُ
نزل معي الجميع .
لم ينزل قلبي فكان يجب أن أبحث عنه ،
وحين عثرتُ عليه زعم الجميعُ أنه قلبُهم ، فتخليتُ عنه ، وصعدتُ بحثا عن قلبٍ آخر .
كنتُ قويا بما يكفي لأن أبكي ،
سوى أنني فضّلتُ أن يكون أمامَ امرأةٍ ،
هي كلُّ ذخيرتي من الخيال :
بكائي ليس قوةً ، والضعفُ ليس بكائي أيضا ،
فأنا قادمٌ من ألمٍ آخرَ لا يفهمه أحدٌ إلا هي ،
لأنها اعجوبة أدّخرُها ليوم لا يفهم فيه أحدٌ أحدا .
كنتُ أنوي هذا عندما كفرتُ بآيتي .
عندما عزلتُ عزلتي كنتُ أنوي عزلةً اخرى ،
ولم أقصد أن أخطفَ جائزة عندما صرختُ .
كنتُ أنوي هذا عندما صعدتُ لأعرفَ كم محصولي من البرق ،
كم محصولي من الظلام ،
وكم يكفي من العناية ، كي أٌلملمَ ثوبَ رعايتي ؟
كم أحتاج من الإهمال ؟
وكم يكفي الألمُ كي أطويَ الأرضَ إلى ما وراء الشيطان ، إلى ما قبل الملاك ؟
لستُ صعلوكا ، ولا نبيا ، أعني : لستُ قتيلا ،
ولكني أعرفُ مَن ذبحني .
كنتُ انتظرُ الحصاد ، لكني ألغيتُ الموعد ،
ووهبت للجراد أن يقطف السنبلة .
كنتُ أنوي هذا
عندما دخلتُ القفصَ مثل عصفور .. .