.
.
الكاتب الهاوي الذي لا يحترف الكتابة ولا يعاملها كبطاقة صراف آلي تدر له بعض الدنانير شهريا، المشغولة أجندته اليومية في مغامرات كسب الرزق وتفادي الحوادث والأحداث، يفهم تماما كيف يتمرد عليه القلم في لحظات الخيبة، فلا يتقدم على الورقة قيد أنملة ليسجل حدثا أو طرحا أو سبقا.
كل شئ معقد.. كل شئ لا يسير على ما يرام، على عكس التطمينات التي جادت بها قريحة أحد السياسيين حين أنشد يقول بأن: (everything gonna be alrighty) …!!
نحن العرب جُبلنا على التمسّك بقناعاتنا كأنها أديان راسخة، مقتنعون بشخصيات عفا عليها تراب الزمن، مقتنعون بأعراف تكبلنا، مقتنعون بالجهوية والعنصرية، مقتنعون بأننا اشترينا البطيخة الصحيحة، فإذا تكشفت من قشورها أمام نظراتنا الشرهة – على استحياء – وتبين أن لبها أبيض.. لم نلم بائعها، بل نلعن الزمن الذي تغير بهؤلاء ونتحسر على الماضي الذي كان كل شئ فيه على ما يرام ثمّ لم يعد..
أتساءل أحيانا متى كان كل شئ على ما يرام؟!!
صحيا: كنت صغيرا حين كان التلفاز يعرض أغنية “محلول الأكواسال” ليعالج الجفاف الذي ألمّ بصغارنا، كما كان الفنان الظريف محمد رضا يرقص على التلفاز المصري لينبه الناس من “البلهارسيا” واللعب غير المحمود في الترعة، “الإيدز” كان في ذلك الوقت “البعبع” الذي يؤرق منام الناس الخائفين من الهواء الملوث.. قبل أن يدركوا ظروف انتقاله الصعبة.
إقتصاديا: كانت “تنكة” البنزين بدينارين فعلا.. فقط حين كان متوسط الرواتب تسعين دينارا…!!
تعليميا: كانت المدارس الخاصة المنتشرة بقوة تحضّك على الإفلاس، بينما العامة تبشّرك بمجموع لا يكفي حتى لدخول السجن…!!
إجتماعيا: كنت أسمع كثيرا المثل الشعبي القائل: (تبدلت غزلانها بقرود).. ولا أدري حقا متى كانت القرود غزلانا قبل أن تتبدل بفعل الزمن الذي كان ولم يعد…!!
أمنيا: كانت جريدة شيحان المحلية تتلذذ بإرعاب الناس وهي تشرح – بالتفصيل – الجرائم التي كان المجتمع يبتلى بها بين فترة وأخرى.. لاحظوا أن عدد السكان في تزايد، هذا تناسب طردي يفهمه رجال الأمن جيدا..
عسكريا: حرب الخليج الأولى كانت في أوجها، ولبنان لا زالت تعاني تبعات الاجتياح وويلات الحرب الأهلية، وحركة الإخوان السورية تباد هي والمواطنين على حد سواء (52 ألف قتيل)، الإقليم الذي بات الآن ملتهبا لم يكن جنة عدن في السابق !!.. بمناسبة عدن.. كان علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض أيضا في سباق محموم لتوحيد اليمنين، ليعتلي الأسبق منهما السلطة قبل الآخر…!!
طبعا أتحدث عن حقبة الثمانينات التي شهدتها طفولتي، وحتى لو تفاءلنا وعدنا إلى زمن السبعينات والستينات.. فلن ينالنا إلا سروال “تشارلستون” ضيقا وقصيدة لأحمد فؤاد نجم تنعى جيفارا، وبعضا من أفكار “سارتر” الوجودية، هناك أيضا سنتعلم كيف حاول العرب مقاومة المحتل بمبادئ شيوعية اشتراكية حطمت حتى محدثيها، مبادئ لم تنفع أحدا بدءا بالرفيق لينين وانتهاءا بغورفاتشوف..
وسط هذا كله لا زلت أمسك بالقلم وأخط أشكالا عجيبة على الورق، منتظرا ذلك الإلهام الذي سيجعل مني كاتب العصر وروائي القرن دون منازع..
وحين امتلأت الورقة سوادا طغى على بياضها فلم يبق منه إلا شذرات هنا وهناك.. فرغ الحبر فاحتقن وجهي ورشقت الحائط أمامي بالقلم المجهض توا، لاعنا الحظ والورق وتأخر الإلهام… والأقلام التي لم تعد كما كانت من قبل…..!!!
_______________________________________