الحلقة الثانية
بقلم: فابيولا بدوي
هذه المقالة هي الجزء الثاني من مشروع “تحالف الضرورة”، الذي تسعى فيه الكاتبة إلى تفكيك تحالف الذكورة والسلطة الدينية، واقتراح إطار نسوي نقدي يجمع بين الليبرالية والراديكالية. بعد أن طرحت الحلقة الأولى الحاجة إلى تحالف جديد، تأتي هذه المقالة لتشرح كيف تمكّنت الذكورة من أن تُشرعن وجودها، لا كمجرد حضور اجتماعي، بل كقانون سماوي لا يُمس. في البدء لم تكن الذكورة تشريعًا، كانت طبيعة. وفي المجتمعات الأولى لم تكن “الأنوثة” تهمة، بل ضرورة حياة. لكن شيئًا ما حدث. شيء حوّل الذكر إلى معيار، والأنثى إلى ملحق. حدثٌ تاريخي/ثقافي، لم يكن بريئًا، ولا عفويًا، ولا طبيعيًا. في هذا الحدث، وُلِدت الذكورة كنظام شرعي. لا كجنس فقط، بل كحق، وسلطة، وقانون، وقدر. الذكورة كامتياز… تبحث عن غطاء لم تكتفِ السلطة الذكورية بوجودها المادي، بل احتاجت إلى مقدّسٍ يحميها، ويُسكت الأصوات التي قد تشكك فيها. وهنا دخل الفقه، لا بوصفه علمًا دينيًا فحسب، بل كأداة لإعادة إنتاج المجتمع الذكوري. هكذا تحوّل “الاجتهاد” إلى أرض خصبة لشرعنة الامتيازات. – قوامة الرجل أصبحت “واجبًا شرعيًا”. – طاعة المرأة تحوّلت إلى “فرض ديني”. – تفاوت الميراث لم يعد مجرد تقليد، بل “نص لا يُمس”. – جسد المرأة لم يعد شأنًا خاصًا، بل ميدانًا عامًا للمراقبة والتشريع. اللغة: الحارسة الصامتة للسلطة لكن الشرع وحده لا يكفي. كان لا بد من لغة تُطوّع الوعي قبل أن تُشرّع السلوك. فجاءت اللغة الفقهية/الدينية محمّلة بانحيازها المسبق: – “المرأة ناقصة عقل ودين” – “الرجال قوّامون على النساء” – “فتنة النساء” – “الستر أولى من الظهور” كلها جُمل تبدو بريئة في ظاهرها، لكنها بُنيت لتصنع الهيبة الذكورية، وتُدخل الأنوثة في حقل “النقص الطبيعي”. الفقه واللغة والسلطة: التحالف الثلاثي في هذا الثلاثي: – الفقه يصوغ القاعدة. – اللغة تُمررها داخل اللاوعي. – السلطة تُنفذ وتُعاقب وتُكافئ. هكذا صارت الذكورة نظامًا متكاملًا، مؤسَّسًا، محميًا، ومُفخخًا ضد أي سؤال. لكن لماذا كل هذا؟ لأن الذكورة، ببساطة، ليست واثقة. الامتياز حين لا يقوم على العدالة، يحتاج دائمًا إلى شرعية زائفة. والذكورة المتسلطة تعرف أنها امتياز موروث لا مستحق، ولذلك تحال إلى النص، وتُغلّف نفسها بالدين، وتدّعي أنها “أمر إلهي”. هل يكفي التشريح؟ لا. نحن لا نكتب لنرثي الضحايا، بل لنفضح القاتل. ولا نكشف البنية لنقف عندها، بل لنفككها ونُعيد صياغتها. وهنا… يعود صوت الحلقة الأولى. ذاك التحالف الذي قلنا إنه ضروري، يثبت اليوم أنه ليس خيارًا بل فرض عين نسوي. تحالف النقيضين في وجه البنية الفقه واللغة والسلطة صنعوا الشرعنة. والنسوية الراديكالية والليبرالية قادرتان، بتحالف واعٍ، على نزع قناع الشرعية عن الذكورة القامعة: – الراديكالية تكشف كيف بُني الوهم، وتعلن أن النص لم يكن بريئًا. – الليبرالية تتسلل من داخل البنية، وتنتزع منها سلاحها بالتأويل والقانون. واحدة تهدم، وأخرى تبني. الخاتمة: تفكيك الشرعية لا الذكورة لا نريد إسقاط الرجل، بل إسقاط التأليه الرمزي للذكورة. لا نُعادِي الإيمان، بل نرفض أن يُستخدم كدرع لممارسات لا عدل فيها. ولا نحمل مطرقة الهدم فقط، بل نحمل أدوات الرؤية الجديدة. فإذا كانت الذكورة قد شُرعِنت بالفقه واللغة والسلطة، فإن التحرر لن يكون إلا بتحالف نقدي يفكك هذا المثلث… حجرًا حجرًا.