“العزيز فراس عمر رواية الفلّاح الّذي تعرف”، بهذه الجملة يقدّم أكرم مسلّم روايته الثّانية لي “سيرة العقرب الّذي يتصبّب عرقا”، وبذلك أكون قد قرأت روايات أكرم الثّلاث: “هواجس الإسكندر”، 2003، و”التبس الأمر على اللّقلق”، 2013، وهذه الرّواية الصّادرة عام 2008 عن دار الآداب في بيروت بعد فوزها بجائزة مؤسسة عبد المحسن القطّان. ومنتظرا رابعة رواياته الّتي أعلن عنها مؤخّرا “بنت شاتيلا”. تتكوّن “سيرة العقرب” من (13) فصلا معنونا، وتمتدّ بنيتها السّرديّة على مساحة (114) صفحة من الحجم المتوسط.
ما زال أكرم مسلم كما في روايتيه الأخريين يفتح خزائن الطّفولة والقرية، محقّقا مقولة “الطّفل أبو الرّجل”، ويمتح من بئر لا تنضب، بئره الأولى الزّاخرة بحكايات مهمّشة ومهملة لتصبح سردا روائيّا بصنعة الفنّ، وقف عند ذلك المشرّد (أحمد اليمني) في “هواجس الإسكندر”، كان أكرم الفتى الّذي فارق الطّفولة أو كاد، يعرف “اليمني” ويراه ويستبطن سيرته، فالتهمه بسرد أوليّ، جنينيّ، يفتح الشّهية لما سيأتي، ثم تأتي هذه الرّواية، ومن بعدُ رواية “التبس الأمر على اللّقلق”، تدور هذه الرّوايات الثّلاث في عوالم متشابهة أو تتقاطع في خطوط متشابكة أهمّ ما يميّزها عالما الطّفولة والقرية، وربما شكّلت هذه الرّوايات مشروعاً مكتملا ثلاثيّ البنية.
في “سيرة العقرب الّذي يتصبّب عرقا” لم يرد السّارد/ الكاتب أن يعيد ترتيب حياته على شكل سيرة روائيّة، وإن أغرى القارئ بمصطلح “سيرة”، لكنّه وظّف هذه السّيرة ليعيد مساءلة الفنّ الرّوائيّ بعناصره كافّة. مغامرة روائيّة شائكة ومعقّدة ومفتوحة على التّأويل.
تقرّر الرّواية أنّ السّرد خطير وخطير جدا، فمن أين جاءت هذه الخطورة؟ وكيف يمكن للكاتب أن يتحايل على هذه الخطورة؟ يلخّص السّارد حيلته في التّخلُّص من إثم قول الحقيقة عارية بأنْ يبتعد عن السّيرة التّقليديّة، لأنّ الكاتب ساعتئذٍ سيضطر إلى أنْ يذكر أسماء حقيقيّة، ولذلك فقد تجنّب أن يعطي للشّخصيات أيّة أسماء، فـ “لا بدّ من أقنعة وإزاحات عموماً”، وحتّى يتمكّن الكاتب من قول الحقيقة عليه أن ينتظر “ليموت أناس كثيرون، وبالمقدار نفسه، فإنّ قول الحقيقة قد يسبّب موت أناس كثيرين”. (ص41)
تبدأ الرّواية برسم معالم العقرب، ليكون وشما في جسد امرأة، يضاجعها السّارد مرّة واحدة ثمّ تتلاشى لتعود تظهر له في الأحلام، تختبئ المرأة أو تتلاشى ويبقى العقرب الّذي يتصبّب عرقا، ينزل من عالم الأحلام إلى الواقع، وينزلق إلى الرّواية، ليظل حاضرا، ويأخذ تفسيرات متعدّدة، (السّارد العقرب، والمكان العقرب، والعقرب الحلم، والكتابة العقرب، والعقرب الشّخصيّة الرّوائيّة، وعقرب السّاعة، وبرج العقرب)، تذوب أخيرا كلّ تلك الدّلالات للعقرب؛ ليكشف السّرد الرّوائيّ عن أنّ هذا العقرب لم يكن سوى الرّوائيّ نفسه؛ فقد وصف العقرب في بداية الرّواية كما وصف السّارد نفسه في آخرها؛ “العقرب يحاول ويحاول بعناد غريب، “يتعربش” وينزلق، حتّى يهدّه التّعب، وأنا أراقبه، يحاول حتّى يتصبّب عرقا ويسقط مرميّا على ظهره”. (ص9)، وفي آخر الرّواية: “لا، لا، مجرّد أرجلي تنزلق على المرايا، أرجلي تنزلق، “أتعربش”، وتنزلق”. (ص113) وبين هذين الحدّين يبدو العقرب بوصفه شخصيّة روائيّة، يفصح السّارد عن نيّته تطوير “العقرب كشخصيّة روائيّة، أردتَ إعطاء ملامح إضافية له، ملامح فنّيّة، صرتَ تتجرّأ وتمنحه حرّيّة أكثر”، وليس هذا وحسب، بل إنّ هذه الشّخصيّة أيضا لها مهمّة أخرى “أردتَه أن يقول أشياء ربّما لن تستطيع أنت قولها، وخطّطت أن تدرّبه لاستدراج المرايا”. (ص103)
وهنا يثور السّؤال التّقليديّ ما علاقة الكاتب بشخصيّات روايته؟ وما هي العلاقة بين الكاتب والعقرب؟ ؟ وأيّ تلك الشّخصيّات كانت قناعا له؟ إنّ السّارد هنا في هذا الفصل الّذي يسرده بضمير “أنت” يوضح هذه العلاقة وحدودها مع أنّها متداخلة تماما، فلا حدود واضحة منفصلة للسّارد تفصله عن المؤلّف والشّخصيّة الرّئيسيّة صاحبة السّيرة، “العقرب الّذي يتصبّب عرقا”.
وتتّخذ الكتابة نفسها أيضا مجاز العقرب أو حقيقته، فيصفها على هذا النّحو أيضا: “أليست الكتابة بشكل ما عقربا يحاول ويحاول أن “يتعربش” على مرآة، ليقف في مكان ما على صورة ما في ذهن ما”. (ص62) هذا التّناظر اللّافت للانتباه بين الكاتب العقرب وبين العقرب الحلم وبين الكتابة العقرب يعبّر عنها في موضع آخر بقوله “كيف أحلم المكان والكتابة حلم”. (ص47)
يوظّف الكاتب في الفصل العاشر من الرّواية (لحن حزين ينعش ذاكرة العقرب) معلومات حقيقيّة عن العقرب (ص84-86)، فهي أنواع كثيرة، منها ما هو سامّ، ومنها غير ذلك، ويختم روايته بهذا التّنويه الدّالّ: “معلومة علميّة ختاميّة لا يجهلها الرّاوي: العقارب لا تشرب الماء، لا مسامات لها، ولا يمكن أن تعرق، أو أن تتصبّب عرقاً”. (ص144) وتكون لديه قناعة أنّ “عقربي لا يلسع، عقربي عقرب جميل لطيف، “أمّور”، فيؤكّدها البحث، لتكون النّتيجة أنّ عقربه ينتمي إلى هذه الفئة “غير المؤذية للإنسان”. (ص84)
هل الكتّاب كذلك عقارب؟ فهم أيضا مذاهب وأساليب وأنواع، وكل كاتب هو نفسه نوع خاصّ به. يبدو ذلك ممكنا على اعتبار أنّ الكتابة أيضاً هي نوع من اللّدغ أو اللّسع أو التنبيه أو المضاجعة. نعم الكتابة نوع من الحميمية الخالصة، هذه الحميمية الّتي أفصح عنها الكاتب في آخر الرّواية أيضا، عندما عبّر عن عدم ارتياحه لقراءة أبويه مخطوطته الرّوائيّة، فكلّ كتابة يجب أن تحدث في الخفاء، ولكن هذا الخفاء غير متحقّق في هذه الرّواية، فعمليّة الكتابة منتهكة مرتين؛ الأولى عندما اختار الكاتب أن يكتبها في فضاء عمومي “كراج سيارات”، وبمصاحبة شخص ما، والانتهاك الثّاني انكشاف “اللّعبة الرّوائيّة” قبل أن تنتهي: “ونسيت أنّني كنت قرّرت ألّا يرى أحد روايتي قبل اكتمالها”. (ص112)
لقد كانت رواية “سيرة العقرب” رواية الفنّ الرّوائيّ وليست رواية تقليديّة، ليس فيها حبكة، وليس فيها شخصيّات مضاءة، وليس فيها مكان محدّد المعالم يحتض أحداثا متسلسلة، لتشكّل حبكة وحكاية متماسكة، أتت أشبه ببيان روائيّ يرواغ الرّواية ليقدّم أكرم مساءلة فنّيّة لهذا الفنّ، بدءا من الفكرة وانتهاء بالمتلقّي وأثر العمل الأدبيّ في القارئ على ما سأوضح لاحقاً.
كيف تبدأ الرّواية؟ إنّها تبدأ حلما روائيّا، هذا ما عبّر عنه السّرد منذ البداية، “أليس هذا حلما روائيّا؟ أو حلم رواية، كثيرا ما سألت نفسي. دائما اعتقدت أنّ الإجابة بالإيجاب، وكثيرا ما نويت فحاولت، وحاولت. وعدت وتردّدت، فأجّلت وأجّلت”. (ص9)
هكذا يبدأ حلم الكتابة، وما بين الإحجام والإقدام، وأخذ القرار، قد يثمر الأمر رواية، ويتحقّق الحلم. من اللّافت للنّظر أنّ الرّواية بدأت بحلم الكتابة الرّوائيّة، وانتهت بتحقّق الحلم، بدأت بالعقرب والحلم، وانتهت بالكاتب؛ بـ “الولد يَشُرُّ (يتصبّب) عرقا”. (ص113)، هل في ذلك محاكاة لقصّة سيدنا يوسف؟ ألم تبدأ بحلم وانتهت بتحقّق الحلم؟ وما بين البداية والنّهاية سرد وحكايات وآلاف من التّفاصيل، لا يملّ الأبوان من تكرارها. ألم يكن الأب حاضرا في البداية؟ ثم حضر الأبوان في نهاية الرّواية، كقصّة يوسف تماما، بل إنّ هناك تناظرا عجيبا بين القصّتين، فقد ورد في نهاية قصّة يوسف “ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سُجّدا”، وفي نهاية الرّواية يعترف الأبوان بعظمة الرّواية، وكأنّه نوع من السّجود للابن، “أمضينا اللّيلة أمّك تقرأ وأنا أستمع”. (ص112)، ثمّ يصرّح الأب بأثر الرّواية فيه “سحرتني، خدعتني، أردت أكثر من مرّة أن أقوم وأمشي على رجليّ الاثنتين، أكثر من مرّة شعرت أنّ فراغ رجلي مجرّد وهم”. ويضيف الأبُ معبّرا عن نشوته واستمتاعه بالرّواية “بل وأكثر من مرّة أردت أن أقوم وأحبّل أمّك”. (ص112). لقد وصف القرآن الكريم قصّة يوسف بأنّها “أحسن القصص”، وها هي الرّواية “أحسن الرّوايات” أيضا، فقد جعلت القارئ يشفى ممّا هو فيه، بل يصبح قادرا على أن يتحرّر من أكثر الأفكار تقييدا لحركته وحرّيّته، إذا ما رأينا في هذا المشهد رمزيّة كليّة أو نوعا من الاستعارة التّمثيليّة.
إنّ هذا الأثر الّذي تُحدثه الكتب في حياة القرّاء لهو وعي نقديّ متقدّم، فالأدب عموما، ومنه الرّواية، لا يُكتب إلّا لتحقيق غايتين مهمّتين هما “توفير المتعة والمعرفة للقرّاء”، كما يقول حنّا مينا، إنّها مساءلة أدبيّة فنّيّة نقديّة بالغة القيمة في الرّواية، إذ لا معنى لكتاب لا متعة فيه، ولا فائدة لكتاب لا يجعل القارئ يشعر أنّه صحيح معافى، ويُحدث عنده الرّغبة في الحياة، هذه الرّغبة المجموعة في جملة واحدة بالغة الدّلالة “أحبّل أمّك”. يا لهذه الكتب الّتي تجعل القارئ في نشوة عارمة شبقيّة! كم كتابا له مثل هذا السحر؟ لا شكّ في أنّ هذا النّوع من الكتب نادر جدّا. وربّما كانت المتعة مقدّمة على المعرفة في الفنّ الرّوائيّ، وفي رواية أكرم سارتا في خطّين متوازيين تماما، ثمّة متعة، ولكنّها المتعة المكتنزة بالمعرفة.
هذه البداية والمآل، ولكنْ ما هي هذه التّفاصيل الّتي تصنع الرّواية بهذا الجمال الآسر؟ هنا سأتحدّث عن عظم الرّواية كيف ينشزها الكاتب ثم يكسوها لحما، ليكون كاتبا على كلّ شيء قدير (روائيّاً)!
تبدأ المسألة بهذه الطّريقة، كما يصرح السّارد نفسه، في علاقته برِجْل أبيه المبتورة، هذا الحدث العاديّ جدّا الّذي تنقله الرّواية إلى مصافّ الفنّ ورمزيّته “أتخيل معها نفسي باستمرار مجرّد بطل في رواية، تحرّكني يد راو بارع لكنّه يثقل كاهلي بأعباء غير عاديّة”. (ص21)، ويكشف المتن الرّوائيّ عن هذه الأعباء غير العادية، هذه التّفاصيل غير المملّة، والالتفات للهامشيّ والاستفادة منه وتحويله إلى فنّ، كالفنان تماما الّذي يصنع من الطّين الّذي تدوسه الأرجل تماثيل وتحفاً خالدة. يلتقط الرّوائيّ تلك التّفاصيل من طفولته وشبابه وواقعه، وعلى الرّغم من أنّ المتن الرّوائيّ لا يمتدّ إلّا على (114) صفحة إلّا أنّه ثريّ ومشبع بالتّفاصيل الّتي أخذت من الطّفولة حكاياتها وأغانيها، وقصص القرية وبوح نسائها، وأحاديثهنّ الخاصّة والسّريّة، كان هذا العالم الرّيفيّ مصدرا مهمّا من مصادر رواية أكرم مسلم هذه. ولم يتوقّف عند هذا العالم فحسب، بل تجده في المكان الآخر “رام الله” يتأمّل أماكنها ومظاهرها وحالها، ويلاحظ بأدقّ التّفاصيل أسودها الأربعة، فينتبه إلى ما لم ينتبه إليه الآخرون، لم يحفر في التّاريخ المكتوب للمدينة وأسودها، ولكنّه يتعامل معها بوصفها نصّاً سرديّا مات مؤلّفه، يفكّك ظواهرها، ويتعمّق دواخلها ويكتب حكايتها على طريقته الخاصّة.
كما أنّه لم يهمل الإشارة إلى التّكوين المعرفيّ للسّارد/ الكاتب، ذلك التّكوين المتحصّل من قراءة كتب الآخرين وتأمّل تحاربهم، كالرّوائيّ والشّاعر الفلسطينيّ حسين البرغوثيّ وديسوفسكي وشكسبير، ليصل إلى توصيف المبدع الكبير الّذي “بشغف كبير كان يحكي شغفاً بالمعرفة وبالإبداع وباللّغة، كان يتدفّق مثل نهر”. (ص69)
لم تكن كلّ تلك المعارف والقصص والحكايات التّراثيّة حشرا وإعادة سرد، وإنّما كانت تتّجه بالوعي النّقديّ لمساءلتها والكشف عمّا تعانيه بنيتها أحيانا من خلل معرفيّ، كما في قصّة الملك الّذي لا يملك شيئا، وبكاء الفتاة مقلوعة العينين، كما ويلاحظ ما تلتقي فيه الحكايات الشّعبيّة من حلم الخلاص من الواقع السّيّئ بفعل قوى خارجيّة، كلّها كانت أخطاء فاضحة أو ملاحظات نقديّة تُسائل الحكاية الشّعبيّة وطريقة كتابتها والهدف منها، وعلى الرّاوي أن يتجنب تلك الأخطاء ويلاحظها، ليكون أوّلا ناقد نفسه قبل أن ينقده الآخرون. ليقدّم عملا أدبيّا روائيّا متماسكا.
إنّ كاتبا يلتقط ما في الحكايات التّراثيّة الشّائعة من عيوب سرديّة، لهو حريص على ألّا يقع في أخطاء مثل هذه إذن، إنّه يعرف الخطأ السّرديّ فيتجنّبه، يقرأ ويتأمّل فيعرف، ويكتب بناء على هذا الوعي رواية لا تقع في أخطاء فنّيّة وروائيّة. وهنا تلتقي الرّواية مرّة أخرى بقصّة يوسف عليه السّلام، في تعدّد الحكايات في إطار حكاية يوسف كونه بطلا تدور حوله أحداث كثيرة، وتنبثق من حكايته أيضا حكايات وتأويلات. حكايات لا عيب في بنيتها السّرديّة، فهي أحسن القصص.
كما أنّه لم يسلّم تسليما أعمى بما جاء في مسرحية مكبث لشكسبير، بل يستخرج حكمته الخاصّة، تلك الحكمة الّتي تبدو ساذجة وسطحيّة، ولكنّها ذات دلالة سياقيّة مهمّة مناسبة في اشتقاقها للموقف الّذي جاءت فيه، تتلخّص تلك الحكمة في ثلاث كلمات “الحياة كلها طبيخ!”. (ص99). هذا هو الدّرس الّذي تقدّمه الرّواية هنا أيضا فيما يتّصل بـ “صنعة الرّواية” والتّعامل مع هذا الخليط الّذي يكوّن عقل الكاتب، ماذا يصنع به ولماذا، وكيف يختار عناصره الرّوائيّة، وكيف يؤلّف بين متناقضاتها ومتباعداتها، فإذا ما كانت الحياة كلها طبيخاً، فالرّواية إذن وهي ترصد تلك الحياة تبتغي أن تكون “طبيخا” معدّا بنحكة على مائدة القرّاء. ربّما هناك تناظر آخر بين فعل القراءة وفعل الأكل أيضا، وتعبّر اللّغة بمشتركات لفظيّة متعدّدة عن هذين الفعلين الإنسانيّين.
حضر في الرّواية أيضا الأغاني الشّعبيّة والشّعر العاميّ، في سياقين مختلفين، الأوّل متضافر مع الحكاية الشّعبيّة، في قصّة وداد وأخيها واللُّصوص، والثّاني عندما أخذ السّارد/ المؤلّف يغنّي على ربابته في نهاية الرّواية. المقطع الأوّل كان شعرا تراثيّا قصصيا مرتبطا بالسّرد/ الحكاية التّراثيّة، والثّاني يصنعه السّارد/ الكاتب ليعزّي به نفسه عندما أصابته الحمى بعد الانتهاء من الكتابة.
لعلّ هذين المقطعين الشّعريّين في الرّواية، ليسا هما الوحيدين فيها، بل تخلّلت الرّواية بعض الجمل الّتي تجنح إلى الشّعر بوضوح تامّ، لتكشف عن أكرم الشّاعر، هذا الشّاعر الّذي خنقه السّرد، فأصبح لا يظهر إلّا خجولا متسرّبا في شقوق اللّغة السّرديّة ليتمرّد عليها أحيانا، محقّقا نوعا من الحضور الشّعريّ الّذي ربّما لم يلتف إليه النّقاد كثيرا في روايات أكرم مسلّم. وقد أشرتُ في قراءتي لرواية “التبس الأمر على اللّقلق” إلى شيء من هذه اللّغة. أمّا في هذه الرّواية فقد حضرت اللّغة الشّعريّة عدا المقطع الّذي عزفه السّارد في نهاية الرّواية، في هذا المقطع الّذي أتى على شكل فقرة سرديّة، ليتوه الشّاعر في السّارد، ويتلاشى فيه، وتمتزج الجمل الموزونة مع الجمل النّثرية: “إلى أين أخذتني يا صاحب الرّبابات، ويا رذاذ المطر، حزين لحنك اليوم، أم سجن صاحبي أثار شجني؟ كأنّ عين الأسد الحزين المتّجه شمالا تدمع، أم أنّها قطرات المطر/ حبّات دمع أم مطر؟ أتدمع عين من حجر؟”. (ص78)
تطرح الرّواية كثيرا من الأسئلة الفنّيّة فيما يتّصل بصنعة الرّواية، وتحيل بنيتها السّرديّة إلى تلك الحساسية الجماليّة الّتي تميّز كلّ كاتب يتقن صنعته، فكما تحدّثت الرّواية عن البناء الرّوائيّ والاهتمام بالتّفاصيل، وأن يكون الرّوائيّ يقظا ملتقطا مادّته من كلّ ما يحيط به من عوالم، وما تختزنه ذاكرته من معارف ذات مصادر، شعبيّة وغير شعبيّة، عربيّة وأجنبيّة، وعلميّة وأدبيّة، شفويّة ومكتوبة، قديمة وحداثيّة تكنولوجيّة، كل هذه المادة تُصهر بعناية لتقدّم في رواية اعتنت بالتّفاصيل، ولكنّها ليست تفاصيل أحداث روائيّة مجدولة من حكاية واقعيّة أو فانتازيّة، وإنّما تفاصيل كتابة الرّواية، وكيف يمكن أن تكتب رواية مؤثّرة وناجحة. وصحيح أيضا أنّ أكرم لم يسمّ الأشياء بأسمائها الحقيقيّة، ولكنّه بلا شكّ فيه يحيل من خلال حيلته الرّوائيّة هذه إلى كلّ مفردات الواقع وأبجديّاته ويحفر في البنية الذّهنيّة للوعي الفلسطينيّ، فيجب ألّا نكون ساذجين، وعلينا أن نرى في الأشياء والأحداث أبعادا أكبر ممّا هي عليه، لأنّ الحقيقة لا تكون دائما في الظّواهر، فثمّة معانٍ أيضا في بواطن الأمور ومكنوناتها.
هنا تبرز مرآتيّة الكتابة الّتي تمتصّ الوقائع وتعيد عرضها بطريقة مختلفة، فالاحتلال موجود في خلفيّة الرّواية، والكاتب موجود أيضا في البعد الفنّيّ للرّواية بشكله السّرديّ، بل إنّ الكاتب قد فكّر في أن يكون مرآة. كما يظهر من هذا الحوار الذي يدور بينه وبين الصّبيّ على هامش إبلاغ السّارد/ الرّاوي بإعادة اعتقال الأسير المحرّر الّذي لم يعد محرّرا الآن:
“- لكن في بالي أن أسألك سؤالاً منذ أسابيع يا أستاذ، هل أصبحتَ مرآة؟
– ماذا تقصد؟ هل أصبحتُ مرآةً؟
– عندما جئتَ إلى هنا أوّل مرّة قلتَ إنّكَ ستحاول أن تصبح مرآة، هل نجحت المحاولة؟
– آمل أنّها نجحت، آمل ذلك، قلت مبتسما”. (ص74)
لعلّ هذا المقطع يعيد مقولة “الأدب مرآة الواقع”، والكاتب بقدر ما ينجح في نقل الوقائع الحقيقيّة، يكون كاتبا ناجحا، على ما تقول الواقعيّة النّقديّة، أو فيما تدّعيه الواقعيّة الاشتراكيّة في بعض جوانب نظريّتها الأدبيّة والنّقديّة، فهما تلتقيان عند الواقع وتصويره. ولكنّ الرّواية، وإن اعتمدت على الواقع في تعدّد مصادره، إلّا أنّها لم تكتف بتسجيله كأنّه “كاميرا”، مع أنّ السّارد يعترف بأنّه يلاحظ كلّ شيء، وأنّه “كاميرا”: “واصلتُ التّحديق وتسجيل الأشياء أوّلا بأوّل، وكأنّني كاميرا ألتقط المشاهد”. (ص72)
ربما التقى أكرم في هذه الرّواية مع بعض الكتّاب الرّوائيّين، تحديداً، الّذين توقّفوا عند الفنّ الرّوائيّ فساءلوه وتأمّلوه، فالرّوائيّ السّوري حنّا مينا حاكمته شخصيّاته الرّوائيّة في “النّجوم تحاكم القمر”، وفارغاس يوسا أعرب عن وجهة نظره في كتابة الرّواية، ولكن على شكل “رسائل إلى روائيّ ناشئ” متخيّل، ليعطي نفسه فرصة أكبر ليتأمّل صنعته الرّوائيّة وصنعة غيره كذلك، وقد كان أكرم حينذاك عندما كتب الرّواية وتقدّم بها إلى مؤسّسة القطّان روائيّا ناشئا، فكأنّه كتب يتأمّل الصّنعة ليشقّ له طريقا وحده، لم يتلمّس تجارب الآخرين إلّا ليبتعد عنها، وقد ألمح لذلك عندما عبّر الرّاوي عن سعادته في أنّه لم يعرف شيئا عن العقرب الواقعيّ قبل الكتابة، “كان ذلك سيشوّش على عقربي الذّهنيّ، عقربي الحلميّ”. (ص85)
كان أكرم يتغيّا أن يكون له طريقه الخاصّ به منذ البداية في كتابة “الرّواية الحلم”، ويبني مشروعه الّذي يشكّل إضافة نوعية في المشهد الثّقافيّ، وليس مجرّد رواية أو روايات تضاف إلى عديد الرّوايات الّتي تفرّخها المطابع لكتّاب أساءوا إلى الرّواية وفنّ الرّواية، وأفقدوه معناه وأهمّيّته وخطورته. إنّه ما زال يتابع مخلصا لمشروعه، ومنتظرا بلهفةٍ جديدته “بنت شاتيلا”.