بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
ملاحظة: كتبت المقال قبل ساعاتٍ من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
أخذت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عشية اعتقال الشيخ بسام السعدي، تهديدات حركة الجهاد الإسلامي على محمل الجد، واتخذت إجراءات احترازية عالية للغاية، فأغلقت المعابر، واستدعت قوات الاحتياط، وكلفت الفرق الخاصة بالجاهزية التامة، وأمرت المستوطنين بالتزام بيوتهم، وعدم مغادرتها إلى الأماكن العامة، وطلبت منهم أن يكونوا على أهبة الاستعداد على مدى الساعة، عند أول توجيه أمني أو صافرة إنذارٍ عامةٍ، للنزول إلى الملاجئ والمباني المحصنة، تحسباً لأي عملية ردٍ قد تقوم بها حركة الجهاد الإسلامي، التي يبدو من خطابها السياسي والإعلامي أنها جادة في تهديداتها، وأنها ماضية في تنفيذ وعودها، وأن أحداً لن يردعها حتى تستجيب سلطات الاحتلال لشروطها.
وكان المجلس الوزاري المصغر “الكابينت” لحكومة الاحتلال قد اجتمع أكثر من مرةٍ، واستمع رئيسها الذي اختلفت لهجته، إلى رئيس الأركان وقادة الأجهزة الأمنية، الذين أفادوا بخطورة الأوضاع الأمنية، واحتمال تدهورها إلى ما هو أسوأ من ذلك، وأن الأمر يتجاوز التوقعات المنخفضة إلى الاحتمالات العالية، حيث غلب عليهم الظن أن حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين قد اتخذت قرارها، وحسمت أمرها، وجهزت مقاومتها لتنفيذ عملياتٍ ما ضد أهدافٍ إسرائيلية، مدنية وعسكرية، انتقاماً لاعتقال قائدها في جنين، وأحد أبرز رموزها في الضفة الغربية، الشيخ بسام السعدي.
تدرك سلطات الاحتلال الإسرائيلي أن حركة الجهاد الإسلامي قد شعرت بالغصة الكبيرة لاعتقال الشيخ السعدي، وآلمها كثيراً الطريقة التي استخدمت لاعتقاله، إذ أطلقوا عليه كلباً ضارياً مدرباً، لاحقه ونهش جسده وعضه، قبل أن يقوم جنودهم بجره على الأرض وسحله، وضربه وتعذيبه وإهانته، وهو ما دفعهم إلى نشر مجموعة من الصور له، تظهر حسن تعاملهم معه، وعدم إساءتهم إليه، حيث بدت الصور الجديدة خالية من الخدوش والكدمات التي كانت موجودة حكماً عند اعتقاله، ولكن خشيتهم من توتر الأوضاع أكثر بسبب الصور الأولى المتداولة، دفعتهم إلى تعميم الصور الجديدة، والسماح للمنظمات الدولية بزيارته في مكان اعتقاله، في رسالةٍ واضحة إلى حركة الجهاد الإسلامي.
إلا أن الحركة التي وصلتها رسائل كثيرة، قام بها وسطاءٌ مصريون وغيرهم، وتعرضت لضغوطٍ كثيرة لئلا ترد، فضلاً عن التهديدات الإسرائيلية بقصف مقراتها، واستهداف قياداتها، وضرب معسكراتها ومراكزها التنظيمية، تصر على موقفها إلا أن تستجيب سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى مطالبهم الثلاثة، وهي الإفراج عن الشيخ بسام السعدي، والإفراج عن الأسير المضرب عن الطعام خليل عواودة، ووقف عمليات الاقتحام والمداهمة والاعتقالات في الضفة الغربية المحتلة.
قد تبدو هذه الشروط صعبة أو مستحيلة وتعجيزية، إذ لا يقبل بها العدو الإسرائيلي ولا يخضع لها، وهي تمس كرامته وسيادته، ولم يسبق له أن خضع أو استجاب لها، وهو لا يريد أن يسجل سابقة في تاريخه، أنه يخضع لشروط المقاومة وينزل عندها، الأمر الذي يعني تكرارها وتشجيعها على القيام بمثلها، وهو الذي سبق له أن اعتقل سعدات والبرغوثي وحسن يوسف وغيرهم من كبار القادة والرموز الفلسطينيين، ولم يخضع للتهديدات، ولم يفرج عنهم أو يبدي استعداداً لمبادلتهم، فكيف يقبل الآن بترسيخ قواعد جديدة ومعادلات كاسرة، يصعب عليه بعد ذلك الخلاص منها.
قد تبدو هذه الشروط فعلاً صعبة لكنها ليست مستحيلة، وقد لا يقبل بها العدو اليوم، لكنها مطالب وجيهةٌ وشروطٌ منطقيةٌ، سيقبل بها العدو، شاء أو أبى في المستقبل القريب، إن وجد نفسه في مواجهة الشعب كله وقواه المقاومة جميعاً، ورأى أن هذه الشروط ليست شروط حركةٍ أو حزبٍ، إنما هي شروط شعبٍ ومقاومة، وأن الفلسطينيين جميعاً يقفون خلفها ويؤيدونها، ولا يتركون حركة الجهاد الإسلامي ترفعها أو تنادي بها وحدها، وأنهم على استعداد للتضحية من أجلها، والصبر حتى تحقيقها.
إنها شروط عزةٍ وكرامةٍ، ومطالب حقٍ وعدالة، فالشعب الفلسطيني كله يقف وراء هذه الشروط ويؤيدها، لكنه مع تعميمها وتوسيعها، فلا تمييز بين الأسرى، ولا مفاضلة بين المعتقلين، بل هم جميعاً أمانةً في عنق هذا الشعب ومقاومته، وتحريرهم مسؤولية والإفراج عنهم واجب، وإن كان من تمييز بينهم ومفاضلة، فالأولوية هي للأسيرات والمعتقلات، وللصبية والأطفال، وللمرضى والمصابين، وللشيوخ المسنين وعمالقة الأسرى الصابرين، فلهؤلاء الأولية دائماً، بما لا ينسينا الواجب الأكبر والمسؤولية الأشمل، وهي الحرية الكاملة وتبييض السجون كلها، حينها يفرح المؤمنون ويحتفل الفلسطينيون بنصر الله.