أمسية نقدية .صالون أقلام أونلاين. للقصة القصيرة. السابعة صباحا

لآفاق حرة . المحرر الثقافي

أمسية نقدية
صالون أقلام أونلاين

مساء الجمعة الواقع في 29.11.2024. وبحضور عدد من الكتاب والنقَّاد والمُثَّقفين العرب. أقام (صالون أقلام أونلاين) أُمسيته الأسبوعيَّة النقديَّة لمُناقشة نصِّ القصة القصيرة، للروائي (محمد فتحي المقداد).
اِفْتتح الجلسة الأستاذ “نشأت المصري” بالترحيب بالحضور. وأدار مُفردات الجلسة الأستاذ “هشام العطَّار”. في البداية قدَّم الرَّوائي محمد فتحي المقداد، لقراءة النصِّ موضوع النِّقاش في هذه الأمسية، وهو:
..**..

السّابعة صباحًا.(قصة قصيرة)
بقلم. محمد فتحي المقداد
المفاجأة ألجمت لسانه عن الشُّكر لله. شدَّ من هِمَّته بلا تَوانٍ لمُلاحقة حبَّات البندورة المُتدحرجَة بحريَّة مُطلَقة من أعلى المُنعطَف المُنحَدِر إلى قاع المدينة. اِمْتلأ كِيسُه. حدّثته نفسه برضا كامل. سيطرت عليه بُشرى الفرح منذ ساعات يومه الأولى مع تسرّب خُيوط الشَّمس: “الحمد لله الذي رزقني من غامِضِ علمه، وساق لي مؤونة بيتي ليوميْن قادميْن”.
هناك، عندما اِنْفتح الباب الخلفيّ لسيَّارة تنقلُ الخضار والفواكه. ما إنْ اِسْتطاع السَّائق التوقُّف على يمين الطَّريق عند رأس الطُّلوع القاسي، اِصْطفاف درَّاجة شُرطيّ المُرور أمامه عكّر مزاجه زيادة على ما بداخله من صراعات. ترجَّل الشّرطيُّ وبيده دفتر المُخالفات والقلم بداخله، بلا سُؤال ولا جواب. ناول “ناجح” إشعارًا بمخالفة أنظمة الأمان على الطُّرقات، وعرقلة وإعاقة حركة المرور في شارع رئيس. على مَضَض اِبْتلع غَيْظه، بهمَّةٍ مصحوبةٍ بلُهاثِ أنفاسه الحرَّى لَملَم ما تناثر من الصَّناديق، وأغلق الباب عليها بعد أن أحكم تنظيمها وترتيبها بتراصٍّ مُتقن.
اِمْتلأت رِئتاه بالأوكسجين بعد أن سحَبَ نفَسًا عميقًا، ثمَّ طرح زفيرًا مصحوبًا بتأوُّهٍ عميق. بدَت حركات صدره الصَّاعدة والهابطة قد هدأت قليلًا. اِطْمأنّ لمُعاودة رحلته الطَّويلة آمِلًا بالوصول إلى قريته، وعينه على السَّاعة المُثبَّتة ذات الأرقام الإلكترونيَّة بلونها الأحمر المُستفِزِّ. الأمل بقطع مسافة الخمسين كيلومتر قبل السّابعة صباحًا. اِسْتغراقه بتفكيره وهو يضرب أسداسًا بأخماس بقيمة المخالفة، حدّث نفسه: “الله لا يوجِّه الخير للشرطيِّ، ضربتان بالرأس موجعتان. خسَّرني وحرمني من أيِّ ربح في هذه المرّة… بل لا بدَّ أن أزيد عليه من جَيْبتي”. هدير المُحرِّك تباطَأ عندما رفع رجله عن دوَّاسة السُّرعة مع بداية نُزولٍ قاسٍ إلى الوادي السَّحيق. اِهْتزاز المركبة وماجَت قليلًا يمينًا ويسار؛ اِنْتشله في اللَّحظة الأخيرة من اِسْتغراقه في لُجَّة أفكاره الهائمة؛ ليُبادر بإحكام سيطرته، مع اِنْتقال رِجْله للضغط على المكابح برفق وحَذَر، أخيرًا اِسْتطاع التوقُّف على يمين الطّريق، ووضع حجرًا أمام الدُّولاب الأماميِّ، وآخَر أمام الخلفيِّ؛ لضمان عدم حدوث اِنْزلاق ولو بسيط. أحضر عدّة تبديل الدُولاب الخَرِب، ليتمكّن من قطع العشرين كيلو متر الباقية.
عادت إلى مُخيِّلَته صورة وجه جاره “أبو صبري” أثناء خروجه إلى مسجد الحيِّ الصَّغير قُبيل صلاة الفجر بأقلّ من ساعة، وتلاقت نظراتهما تحت اللَّمبة التي تُنير عتمة الزَّاوية أمام بُوّابتَيّ بيتهما.
تُحدّثه نفسه: “أعوذ بالله من شرّ عَيْنه، الآن أدركتُ سبب تصرُّفات أهل الحارة بتجنُّبه وتحاشيه إلَّا للضرورة القُصوى. أُخطِّئ نفسي على تلويمي الدّائم على من كان يلوكُ سيرته بأيَّة كلمة”. اِنْهمكَ في تلاوة آية الكُرسيِّ والمُعوَّذات لِطَرد شرّ شَبَح عين الجار. شُرودٌ ذهنيٌّ اِسْتحضر حكايا قديمة عن حوادث. اِمْتدَّت يده إلى مفتاح الرَّاديو. وكأنّ السَّماء اِنْشقّتْ عن صوت الشّيخ “عبد الباسط” بتلاوة قصار السُّوَر. هدأت حِدَّة الهواجس، وطردت أكوام القلق، وفاض جوُّ السيَّارة بروحانيَّة عبَّقتْ لدقائق في رأسه.
عادتْ كلمة أحد الجيران بحضورها قويَّة تُزاحم الشَّيخ “عبد الباسط”؛ فجعلته يغفل ويغيب عن وعيه: (والله لَئِن مات “أبو صبري” لن أكون مع مَنْ يُصلُّون على جنازته). اِنْتفضَ مذعورًا من تداعيات ذكرياته، واِهْتزّ جسده بارتجافٍ عنيف: “يا إلهي عندما توفّي ذلك الرَّجل في اليوم الثّاني لمقولته بحقِّ جارنا. وصلَّيْنا عليه معًا”.
تخايل له صورة ملك الموْت يطرُق عليه الزُّجاج الأماميّ. توقَّف من جديد، ولا نيّة بمتابعة طريقه، ونسي موعد اِفتتاح محلّه في السّاعة السّابعة التي ستحلّ بعد عشرين دقيقة.
..**..
فعاليات الأمسية:
وبعد الاِنْتهاء من القراءة. اِبْتدأ الأستاذ النَّاقد “ياسر عبدالرحمن” بتقديم قراءته الرَّئيسة النَّاقدة الفاحِصة للقصَّة، وكان ممَّا جاء عليه: (أن يكون العنوان للنصِّ، توقيتًا زمنيًّا فهو مغامرة، ولكنَّه جاء مُرتبطًا مع حالة النصِّ بتوافق دالٍّ بدقِّة على الحيْثيّات المُتوافقة ضمن سياقات النصِّ. كما عرَّج على الشخصيَّات التي حرَّكت الحدث منها، السَّائق بائع الخضار، والرَّجل المسكين الذي اِلْتقط حبَّات البندورة، وشُرطيّ المرور، وممَّا ورد من اِسْترجاع شخصيَّة الجار “أبو صبري”، و”الشيخ عبد الباسط”، و”ملك الموت”، وتسليط الضُّوء على أفعالهم وردود الأفعال الأخرى.
كما أشار الأستاذ “ياسر” إلى المِسْحة الإنسانيَّة والإيمانيَّة لأبطال النصِّ، كلُّ ذلك على كان محمل لغة سليمة بسيطة متماسكة، اِسْتطاعت إيصال رسائل الكاتب للقارئ. كما أنَّ اِنْزياحيّة الخاتمة المفتوحة فتحت آفاق التأويل، وجعلت القارئ شريكًا مُتورِّطًا مع الكاتب.

وفي مداخلة للأستاذ “عمر زين”. أشار إلى تعالقات الصِّراع بين الإنسان والسُّلطة، من خلال موقف بسيط من خلال تسلُّط شرطي المرور، وإلى قضية العمل واكتساب الرزق والسَّعي من أجل البقاء. كما أن قضيَّة الحسد، وأبرز قضيَّة بائع الخُضار الذي تكالبت عليه الظروف دُفعة واحدة.

أمَّا الأستاذ “مصطفى الخطيب” الذي رأى نُعومة السَّرد القصصيِّ في النصِّ، والاهتمام بالأشياء الصغيرة بوصفها الدَّقيق؛ لتتماشى مع السِّياق العامِّ للنص المُنصبِّ على قضايا النَّاس البُسطاء في أمورهم الحياتيَّة اليوميَّة، وأحلامهم الصّغيرة.. إنَّها أحلام البُسطاء، لتتماهى مع (محمد البوعزيزي) في تونس. وانفجار الرَّبيع العربيِّ على يديْه.
وفي دوْرها سلَّطت الشَّاعرة “أريج محمد” الضُّوء على البُعد الفلسفيِّ والإنسانيِّ، من خلال لغة قصِّ بسيطة متماهية مع الحدث، وفي سباق مع لقمة العيش.

أمَّا الأديبة “عبير خالد يحيى”، فقد تلقَّت رسائل بثَّها الكاتب في نصِّه، مع ملاحظة أنَّ التناصَّ مع الأمثال الشعبيَّة، من خلال دلالة متشابهة مع ذلك المنحى، كما أنَّ تداعيات الخاطر والصوت الداخلي للسائق، ونبرة صوت الفرح للرجل الذي التقط حبَّات البندورة المُتدحرجة من أعلى المُنحدَر. وكذلك صوت السَّائق، وملمح العام للنص مع إشارته لشتم الشُّرطي، وكلام الجيران واللَّغط حول الجار (أبو لطفي). والشَّؤم منه والابتعاد عنه. كما أنَّ الخروج المُبكِّر للعمل ميزة لارتياد أبواب الرزق التي تُفتح مع بداية النهار.

الأديبة “ليلى حسن” أشارت في مُداخلتها إلى رمزية شرطي المرور الذي تتمثَّل فيه دكتاتوريَّة السُّلطة، والتفنُّن في قهر المواطن البسيط، وتطرقت إلى محور الموروث الدِّينيِّ المُهمين على فكر المُجتمع عمومًا، وكذلك عرَّجت على قضيَّة المُعتقدات الشعبيَّة. وأشارت إلى قضيَّة المُتمثِّلة في حضور ملك الموت في حالة من اللا وعي عند السَّائق، ليُصاب بالذُهول والاستغراق في حالة من الاسترجاع والتأمُّل.

وفي عودة لاستكمال قراءته الأولى، أشار الأستاذ “ياسر عبد الرحمن” للسَّائق عندما تخيَّل ملك الموت، وقضيَّة الموْت التي تضاءل أمامها كلُّ المصائب بالإيمان بالقضاء والقدر. وأنَّ نهاية القصَّة المفتوحة، التي تفتح آفاق التأويل لمساحات حرَّة من الممكن أن يذهب إليها القارئ.

كما أنَّ الأديبة “ثُريَّا السيِّد” قارنت بين محاور النصِّ وهي تتبَّع دروبه، وقالت: إنَّ التوقيت الزَّمنيِّ للتعبير عن الصَّباح، حين ابتدأ النصُّ في السَّابعة صباحًا، وكانت نهاية النصِّ أيضًا في السَّابعة صباحًا، كما أنَّ البداية بالمفاجأة السَّعيدة لمن التقط حبَّات البندورة. وكذلك النهاية كانت مفاجأة. ودلالة الشُّرطيِّ على أنَّه مركز القوَّة، والشَّكوى لله، والإيمان بالقدر. والكفاح من أجل لقمة العيش.

وأشار الأستاذ “صلاح شعير” إلى تقليديَّة النصِّ بواقعيَّته، بإيحاءات واضحة وغامضة، والسابعة صباحًا بداية يوم عمل، والرَّجل الذي عثر على البندورة، ومصائب عند قوم كانت لهم فوائد. ودلالة الطَّريق على أنَّه كان مسرحًا لأحداث النصِّ، فإنَّه إشارة إلى حريَّة دخول وخروج الحدث وأبطاله، كما أنَّ دور الشُّرطيِّ ليس دور تسلُّط، إنَّما القيام بالواجب الوظيفيِّ عند مُخالفة القوانين. وهو فعل السَّائق بعد التزام بقوانين المرور، وعطل السيَّارة مع قلَّة الصِّيانة الدّوريَّة لها، وإصلاح الأعطال. كما قضيَّة الشُّؤم غير المحمودة (السَّائق وجاره). وعلى الرَّغم من أنَّ الإطار السَّرديَّ التقليديِّ للقصَّة، فقد استطاع فرد مسائل كانت خفيَّة، ولم يُفصح عنها إنَّما فُهمت بدلالة التعبير، وبثَّ مجموعة من الرَّسائل الإيجابيَّة.

الأستاذ “نشأت المصري” أشار للأسلوب الجميل السَّريع الإيقاع الموحي، والمُكثَّف المعنى، والتشويق، أمَّا مساحة تعبير النص المحدودة أوصلت المعاني والرَّسائل بيسر وسهولة.

وبدورها أعربت الأديبة “روشان” عن سعادتها لحضورها الأول أمسية مع نخبة من الأدباء، وشكرت إدارة الملتقى على إضافتها. كما أن الشَّاعرة “أريج محمد” ألقت قصيدتها (شُبَّاك القلب” بطريقة جميلة ورائعة.

وفي الختام. جاء دور الرَّوائيِّ “محمد فتحي المقداد”، وشكر جميع الأدباء والأديبات الحضور على تفاعلهم مع النصِّ، من خلال مداخلاتهم التي انصبَّت على تقنيات القصَّة من بساطة التعبير، والمُفارقات السرديَّة، وتعدد الشخصيَّات وتفاعلاتها بتعدديَّة الأصوات، الزَّمن المُتداخل مع نسيج النص.
وخُتِمت الجلسة بالوداع الأخير.. على أمل لقاء آخر.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!