كتب: حيدر البرهان الحمداني
شاعر وناقد وكاتب مسرحي
مقدمة: الحصار كأداة لتدمير الهوية
فرض الحصار الدولي على العراق عام 1990 بموجب القرار الأممي 661 لم يكن مجرد عقوبة اقتصادية، بل كان أداة تفكيك منهجية للبنى المجتمعية والثقافية العراقية. امتدت آثاره لتشوه العلاقات الاجتماعية وتعيد إنتاج خطاب تمجيد الطغاة، خاصة عبر أدوات الثقافة والشعر، كآلية بقاء للنخب في ظل نظام شمولي. قسوة الحصار حوّلت العراق من مجتمع متحضر إلى ساحة صراع للبقاء، حيث انهارت القيم التقليدية لصالح الولاءات الطائفية والتملق للسلطة.
أولاً: تحولات البنية الاجتماعية – من التماسك إلى التفكك
1-انهيار الطبقة الوسطى وتحولات القيمة الاجتماعية:
-تحول المدرسون والأطباء والمهندسون إلى باعة متجولين (بيع شاي، سيارات أجرة) بعد انهيار قيمة الرواتب (5 آلاف دينار ≈ 2.5 دولار شهرياً).
-تحول رأس المال الاجتماعي من المعرفة والتعليم إلى الثروة والولاء للنظام، حيث فقدت الشهادات العليا قيمتها لصالح “الفساد والوساطة” كآليات بقاء.
2-عودة العصبيات القبلية والطائفية:
3-لجوء العراقيين إلى الانتماءات القبلية كشبكة أمان بديلة عن الدولة المنهارة، مصحوباً بعودة التقاليد المقيدة لحقوق المرأة والتعليم.
-تصاعد العنف المجتمعي: ارتفاع معدلات الجريمة 300%، والدعارة، وتشريع عقوبة الإعدام لمقاومة “الانحراف الأخلاقي” كغطاء لفشل النظام.
3-تفكك الأسرة العراقية:
4-هجرة 2.5 مليون عراقي (بينهم 23 ألف أكاديمي ومتخصص)، مما أفقد الأسر معيلها الرئيسي.
-تحمل النساء العبء المزدوج: إدارة شؤون الأسرة في ظل شح الموارد، وتراجع مشاركتهن في العمل العام.
ثانياً: الثقافة تحت الحصار – بين التدمير الممنهج وآليات التملق
1-تدمير البنى التحتية الثقافية:
-توقف استيراد الكتب والمجلات العلمية، وتقادم المكتبات بسبب حظر استيراد “المواد ذات الاستخدام المزدوج”.
-تدهور المؤسسات التعليمية: تسرب 45% من الطلاب من المدارس، خاصة الفتيات، وتحول الجامعات إلى “ساحات مراقبة أيديولوجية”.
2-الشعر بين المقاومة والتملق:
-تمجيد النظام: تحول شعراء مثل عارف الساعدي إلى “منابر تمجيد” لصدام، كاستراتيجية بقاء للحصول على حصص غذاء أو حماية. مثال: قصائد تصف الحصار كمؤامرة “غربية صهيونية” وتقديم صدام كبطل مقاوم .
-الانكفاء أو الهجرة: شعراء مثل موفق محمد (بائع الشاي في الحلة) رفضوا التملق، لكنهم عانوا الإفقار، بينما هرب آخرون إلى المنافي.
3-استغلال التراث لأغراض أيديولوجية:
-حملة “الإيمان” الحكومية (1993): توظيف الموروث الديني في خطاب صدام، عبر رعاية المواليد الدينية و”التراث الرافديني” كأدوات لتلميع صورة النظام.
-تدمير 62 قاعة فنية من أصل 69، وتحويل الباقي إلى مراكز دعاية لحزب البعث.
جدول: تحول دور المثقفين تحت الحصار
| الفئة | استراتيجية البقاء | مثال بارز | المصير |
|——————–|——————————|—————————–|—————————|
شعراء النظام | التمجيد والخطاب التعبوي | عارف الساعدي | مناصب في المؤسسات الرسمية |
المنكفئون | الصمت أو العمل الهامشي | موفق محمد (بائع شاي) | إفقار وتهميش |
المهاجرون | النقد من المنفى | سعدي يوسف | فصل عن الجمهور المحلي |
ثالثاً: الآليات النفسية لتمجيد الطغاة – من الخوف إلى التماهي
1-الأسطرة كتعويض عن الإحناء بالانهيار:
-تحويل صدام إلى “أبو عدي” (الأب الرمزي) في الخطاب الرسمي، لتعويض غياب الأب المعيل في الأسر المفككة .
-ترويج أسطورة “التحدي”: تصوير الحصار كمعركة وجودية يقودها القائد ضد “أعداء الأمة”، لإخفاء فشل سياساته.
2-الانقسام النفسي الجماعي: -الازدواجية: تبني خطاب تمجيد النظام علناً مع كراهيته سراً، كآلية لحماية الذات. وصفها مثقفون بـ “انفصام البقاء”.
-اللغة كأداة طغيان: تحول الشعر من التعبير الجمالي إلى “خطاب كراهية” ضد الخصوم (مثل قصائد تهاجم الشيوعيين في تسعينيات العراق).
رابعاً: ما بعد 2003 – استمرارية الولاء في ثوب جديد
1-تحول شعراء النظام إلى الإسلام السياسي:
-انضمام شعراء مثل الساعدي إلى أحزاب إسلامية (الحزب الإسلامي العراقي، التيار الصدري) كاستمرار لآلية التكيف مع السلطة.
-توظيف الخطاب الطائفي (تمجيد “المقاومة الشيعية”) بديلاً عن الخطاب القومي، مع الحفاظ على آليات التمجيد ذاتها .
2-استغلال ذاكرة الحصار في الخطاب السياسي الجديد:
-توظيف أحزاب الإسلام السياسي لمعاناة الحصار كأداة لتبرير هيمنتها: “نحن ضحايا حصار طائفي يجب أن نسيطر لنتقي تكراره”.
-إعادة إنتاج ثقافة التبعية: تحول “النخب الثقافية” من تمجيد صدام إلى تمجيد المراجع الدينية وزعماء الميليشيات.
خاتمة: الحصار كجريمة إبادة جماعية للهوية
لم يكن الحصار مجرد عقوبات اقتصادية، بل كان إبادةً للنسيج المجتمعي والثقافي العراقي، كما وصفه دينيس هاليداي عند استقالته من الأمم المتحدة . أنتجت هذه الجريمة:
-مجتمعاً مشوهاً: غياب الثقة، تفكك الأسر، سيطرة العصبيات.
-ثقافةً ممزقة: بين نخبة تُمجد الطغاة الجدد، وبين إبداع منكفئ أو منفي.
-استمرارية الاستبداد: تحولت أدوات التمجيد من القومية إلى الطائفية، لكن الآلية واحدة: الخوف والانتهازية كأدوات بقاء.
“العراقيون لا يشبعون من الظلم، فإذا أُصيبوا بالتخمة من ظالم استبدلوه بظالمٍ أعتى” .
هذه العبارة التي سجّلها الشاعر موفق محمد تختزل مأساة شعب حوّله الحصار إلى وقود لاستبداد لا ينتهي، حيث صار تمجيد الطغاة – قديمهم وجديدهم – مرضاً وجودياً يتجدد بلون جديد، لكنه يستند إلى الجرح ذاته: جوعٌ لم يُداوى، وكرامةٌ لم تُستَرجع.