رائد محمد الحواري/ نابلس
يبحث القارئ عما هو جديد وممتع، ما يعبر عن واقعه، فعندما نقرأ نصا أدبيا ونشعر أننا نحن من كتبه، أو يعبر عما كنا نريد قوله لكننا نفتقد اللغة/ الوسيلة، تكون علاقتنا بهذا النص حميمة، حتى نشعر بخصوصيته، في هذه القصيدة، يقدم لنا “فراس حج محمد” ما هو جديد ومتألق، فهو لا يشعر بالحزن والاغتراب، بل يجعل الأشياء هي من تحزن، وتغترب، والجميل في حركة وصوت هذه الأشياء/ الجمادات أنها تتماثل تماما مع حالة الإنسان:
“في غرفتي الكبيرة نوعاً ما
كلّ شيءٍ يتكلّمُ غمغمةْ”
الشاعر (محاصر) في غرفته، رغم أنها تبدو ـ نسبيا ـ كبيرة، إلا أنها لم تعد تمنحه ما يمنحه المكان الخاص، لهذا جعل الأشياء تغمغم، بعدها يتجه مبتعدا عن هذه الهمهمات، محاولا إيجاد شيء جميل، يخفف عنه عدم انسجامه مع الأصوات/ الهمهمات، فينقلنا الشاعر إلى المرآة، إذ تبدو:
“المرآة في وسَط الحائط تعرِض صورة وجهي بتشاؤمٍ ثقيلْ”
ليس وجه الشاعر المتشائم، بل المرآة هي المتشائمة، لهذا تعكس وجهه بهذا الوضع البائس، فالصوت والصورة ينغصان على الشاعر ويزعجانه، فماذا فعلا؟ بعد هذا الموقف غير الودي من المرآة ينتقل الشاعر إلى سريره، لعه يجد فيه الراحة:
“والسّرير المنهكُ منذ أكثرَ من عشرين عاماً يئنّ من شدّة الوطأة في النّوم المملّ”
حتى مكان الراحة يئن من الرتابة، فيبدو غير مرتاح ويشعر بالملل، فيتجه كأي إنسان يشعر بالملل وعدم الانسجام مع محيطه إلى التلفاز:
“والتّلفاز المعلّق في الحائط الشّرقيّ من الغرفةِ
شبهُ مخلوقٍ هرِمْ
فقَد الكلامَ منذ أن تولّى أحد الزّعماء قيادة البلاد الحزينة وقتذاكْ”
إذن أداة التسلية أصبحت بائسة كبقية الأشياء، لهذا عليه الخروج من غرفته التي لم تعد تصدر إلا الهمهمات المزعجة، والمرآة التي تعكس الوجه الجميل بصورة حزينة، والسرير لم يعد مكان للراحة، والتلفاز فقد قدرته على التسلية، فما العمل؟ عليه الخروج من هذه الغرفة والخروج من بؤس الأشياء التي فيها:
“وملابسي التي كانت جديدة قبل عقدينِ
تجهّمت من تعَب الانتظار على جسدي المتهدّلْ
لا قدرةَ لديها كي تضحكْ”
(يذهب) الشاعر (ليستبدل) ملابسه، لكنه يجدها أيضا حزينة وبالية ومجعلكة، فهي تتماثل مع حالة الإنسان البائس، شكلا/ تعبيرا، ومضمونا، لهذا جاءت بصورة “تجهمت، لا قدرة لديها” لكن لماذا جعل الشاعر تفاصيل الثياب أطول وأكثر من تناوله للتفاصيل الأخرى؟ أعتقد لأنه يرتديها باستمرار؛ يشعر بحميمية العلاقة معها أكثر من السرير أو المرآة أو التلفاز، لهذا أدخلنا إلى تفاصيل أخرى متعلقة بالثياب:
“لم تعُد زاهية ومَكْوِيّةْ
فالمكواة ذات الطّراز القديم خبّأتها جدّتي تحت الشّجرةْ
كي نُبايعها كلّما هدّنا الشّوق إلى العهد الجليلْ”
أعتقد أن هذا التواصل في تقديم الأحداث جاء ليؤكد العلاقة الاستثنائية بين الشاعر وملابسه، وكأنها صاحبته، فأدخلنا إلى حديث عن جدته التي خبأتها، ورغم عدم قناعتنا بأسباب هذه التخبئة، إلا أن الاستفاضة في الحديث عن علاقته بالملابس، يؤكد أن الشاعر يعطي ملابسه مكانة أعلى من بقية الأشياء.
“أو ربّما احتجنا إليها ذات مرّة في عراك طويل مع الحكومة العفنة!”
لا ندري سبب هذا التوغل في تفاصيل المكواة؟ ولماذا جعل منها أداة للعراك؟، هل هو ناتج عن اليأس الذي سببته لها الغرفة وما فيها، فعندما أراد الخروج منها وجد أقرب الأشياء عليه “ملابسه” في حالة يرثى لها، فأصابه اليأس أيضا، لهذا يتحدث بهذا الشكل غير (السوي)؟:
“لا شيء يشير إلى أنّ الكلام سيُصبِح واضحاً
حتّى القهوة أخت الكلام الجميلِ
امتنعت عن أن تغنّي كلّ صباح على شفاهي اليبسة”.
أعتقد أن هذا المقطع يشير إلى أن الشاعر يأس من كل شيء، وقد عبر بوضوح إلى عدم (منطقية) الكلام، وهنا نربط بين بداية البؤس الذي كان من خلال سمع الهمهمات، وهذا البؤس الناتج عن عدم الوضوح والكتمان معا.
“والشّارع المحنيُّ كالظّلّْ
لم ينم منذ أن خرجت رائحة اللّيل إلى العلنْ…!”
مشكلة الشاعر لم تعد في الغرفة فحسب، بل انتقلت إلى الشارع، المكان المفترض أن يجد فيه متنفسا، فالحصار/ الاغتراب لم يعد مقتصراً على الغرفة، بل أيضا طال الخارج، وهنا تُصل الأشياء والشاعر إلى الحضيض، فلم يعد هناك من يسعفه/ ينجده، فكلها فقدت بريقها وأمست ضده.