لآفاق حرة
أسماء حسيب كيالي.. غير الحُسنَى
بقبم. نجم_الدين_سمّان. سوريا
بعد أن قبضتُ جائزتي الماليَّة من مسابقةٍ للقصّة القصيرة عام 1981؛ قَصَدتُ “ساحَةَ المَرجَة” لشراء أقراص “البرازِق” الشاميّة؛ ثمّ انعطفتُ في طريقي نحو “سوقِ الحميديّة” فرأيتُ حسيباً في مقهى شعبي؛ ربما كان اسمُهُ: مقهى الكمال.
كان حسيب كيالي يكتب بقلم الحِبر على ورقٍ أسمر؛ فجلستُ في طاولة مُقابِلَةٍ له.. حتى لا أقطعَ عليه كتابته؛ ثمّ جاءني النادل فطلبتُ كأسَ شاي.
مِن المُمتِع.. أن يُشاهِدَ أحدٌ كاتباً مُنغمِساً فيما يكتبه وسطَ ضجيجِ مقهى شعبيّ؛ ثمّ يرفع حسيب رأسَه.. ليُلقِي نظرةً عامةً خاطفةً على الشارع أمامه؛ بين كلِّ مَقطعَين؛ أو ترتسم على شفتيهِ شِبهُ ابتسامةٍ؛ فتُخمِّنُ بأنّهُ قد اصطاداً أحداً ما.. بِسِهَامِهِ الساخرة.
رفع حسيب رأسَه هذه المرَّة باتجاهي؛ كأنما قد أحسَّ بأنَّ أحداً ينظر إليه.. فابتسم:
– بعتُوك الأدِالبَة.. لتتجَّسَس عليّ؟!.
ثمَّ دعاني ضاحكاً للجلوس إلى طاولته؛ وقد أنهى كتابةَ ما قَد بدأه:
– هات لنشوف.. أشو أخبار البلد؟.
سألني عن كُلِّ شخصٍ يعنيه؛ وعن مصائرِ شخصياتٍ كان قد كتبَ عنها.. ثم أضاف: – كم ولد صار عند أبوك؟.
– ثلاثة و بنت واحدة.
– من زوجة واحدة ؟!.
– أبي ليسَ زِيرَ نساءٍ أو.. مِزوَاجاً مثلك.
ضحك حسيب: – أشو عَم تعمِل هُون بالشام؟.
حكيتُ له عن فوز قصَّتي؛ فسألني إذا كانت معي نسخةٌ منها؛ قلت: نشروها في الجريدة؛ قَلّبتُ الصفحات وأشَرتُ إليها؛ قال: إقرأها.. أريد أن أسمَعَها منك؛ ربما كان يُرِيد اختباري؛ أو ليترصَّدَ أخطائي؛ فمازحتُهُ:
– سيظنّ الناس بأن المقهى صار فيه حكواتي؛ أو تحوَّل إلى مسرح؛
فسألني:
– سمعتُ بأنك كتبتَ مسرحيةً وأنتَ في الصفّ الحادي عشر؛ ولكن هل اشتغلتَ في المسرح قبل أن تكتب له؟.
قلت: – منذ الصَفِّ الخامس في المسرح المدرسيّ؛
رَفَعَ حسيب صوتَهُ.. ليُسمِعَ رُوَّاد المقهى:
– اعتبر نفسك حكواتياً الآن؛ سمعونا يا شباب.
كُلُّ الأمسيات التي شاركتُ بها.. في المراكز الثقافيّة؛ وفي مهرجانات الأدباء الشباب؛ وفي الملتقى الأدبي لجامعة حلب؛ لا تُعَادِل إلقاءَ قِصَّةٍ في مقهى شعبيٍّ.. وبحضور حسيب كيالي.
ثم سألني عن لجنة التحكيم؛ فَذَكَرتُ له الأسماء؛ قال: – منيح.. مو معهم عبد الله أبو كيف!. يقصِد: عبد الله أبو هِيف.
كان حسيب كيالي بارعاً في تحريفِ أسماءِ من ينتقدُهُم ساخراً؛ حتى صار اسمُ علي عقلة عرسان في جلساته الخاصة: علي عَرصَة عَرصَان.. ويختصرُهُ في مقالاته الساخرة.. هكذا: ع.ع.ع؛ فأذا سأله أحدٌ من أعضاء اتحاد الكتاب: مَّن تقصدِ بهذا الاختصار؟؛ ردّ حسيب ساخراً: – أقصِد رئيسَ اتحادِكُم.. يا عَرصَه.
ومِن أسماءِ حسيب غَيرِ الحُسنى.. أيضاً:
وليد إخلاصي: وليد إفلاسي؛ فارس الزرزور: نائِف الزرزور؛ عادل أبو شنب: عادل بلا شنب؛ والقائمة.. تطول.
كتبَ حسيب ذاتَ مرَّة في زاويته الساخرة:
قلّبتُ الصُحُفَ اليوميةَ الثلاث صباحَ هذا اليوم؛ فوجدتُهَا تمدَحُ في يومٍ واحدٍ قصائدَ لشاعرٍ واحدٍ.. بِعَينِه؛ فتساءلتُ كيف لصُحُفِنَا الصامدة ضدَّ الصهيونيّة والامبرياليّة.. أن تجعَلَ العُدوَان ممدوحاً ؟!.
وعلى ذِكرِ العُدوَان أيضاً.. كتب حسيب كيالي بعد حرب 1973 زاويةً ساخرة؛ تذكَّر فيها؛ كيف كان يتمشَّى يومياً من ساحة الأمويين إلى “خَانِق الرَبوَة” فيمُرُّ بسور نادي الضباط الجديد؛ ويرى جداريّةً نُقِشَت عليها أبياتٌ لصابر فلحوط؛ الرئيس المُزمِن لاتحاد الصحفيين: أنا بعثٌ فليَمُت أعداؤُهُ / عربيٌّ عربيٌّ عربيّ.
حتى اخترقت الطائراتُ الاسرائيلية سماءَ دمشق وتصدّى لها الخبراءُ الروس بصواريخ السام 6 فأسقطوا بعضها؛ ومنعوا بعضَهَا مِن تحقيقِ أهدافها؛ سِوَى صاروخٍ إسرائيليٍّ.. غَادِر؛ أُفلِتَ من العبقريَّة السوفيتية؛ فأطاح بجداريَّة فلحوط وبأبياتِ شعره.
يُتابِعُ حسيب.. بما معناه؛ كما أتذكَّرُ الآن:
“بعد انتهاء الحرب عُدتُ إلى مُمارسة رياضتي اليوميّة؛ وحين مررتُ بتلك الجداريّة؛ فكَّرتُ بأنَّ أعدائنا استهدفوا ذاك الشعر تحديداً؛ ولو أنِّي يومَهَا مررَتُ بجانبه؛ وأتاني الصاروخُ الصهيونيّ الغَادِر؛ لكنتُ الآنَ شهيدَ الشعراءِ الفلاحيط الفحاليط”.
قال لي حسيب في جلسة المقهى تلك:
– تعرِف بأنّي ذهبتُ إلى باريس لإتمام دراستي في القانون الدولي؛ كما كان يرغب بذلك والدي: مُفتِي إدلب آنذاك؛ لكنّي لم أترك مسرحيةً في باريس لم أحضرها؛ ولا فرقةً مسرحيةً لم أتعرَّف إليها؛ حتى صارت الدراسةُ شيئاً في آخرِ اهتماماتي.
فلمّا عُدتُ من باريس.. حاولتُ أن أُحيِي المسرحَ الشعبيَّ الساخر الذي بدأه حكمت مُحسِن؛ لكنّ النخبةَ آنذاك لم تكُن في صَفِّي؛ ولم تدعمنا وزارةُ الثقافة؛ فلم نسترجع ما أنفقناه على إنتاج مسرحية: مشحَّر يا جُوز التِنتِين؛ حتى جاءتني دَعوةٌ لحضورِ أولِ دورةٍ.. لمهرجان دمشق المسرحيّ؛ فقلت لنفسي: – روح يا ولد.. تفرّج.
وهناك رأيتُ جان ألِكسَان يتصدَّر ندواتِ المهرجان؛ يُقَاقِي بالمُصطلحات المسرحية؛ يُقاطِعُ.. هذا؛ يَبتُرُ مُداخلةَ.. ذاك؛ فلمَّا رفعتُ يدي لأناقشَ.. لم يَرَنِي؛ رفعتُها ثانيةً.. فرآنِي وتجاهلني؛ رفعتُها ثالثةً.. فتجاهلني عن سابقِ ترصُّدٍ وإصرار؛ تركتُ الندوةَ إلى أقربِ مقهى؛ وكتبتُ رسالةً إلى وزيرة الثقافة نجاح العطار نشرتُها في زاويةٍ ساخرة:
السيدة وزيرة الثقافة: أشكرُ دعوتَكِ لحضورِ المهرجان؛ وأشكرُكِ أيضاً لأنِّي طَوَّرتُ خلالَهُ ثقافتي المسرحيّة؛ حين تعرَّفتُ في ندواتِهِ إلى المُصطلحات المسرحيَّة التالية: التغريب؛ كسر الجدار الرابع؛ مسرح الشارع؛ مسرح القسوة.. الخ؛ وإلى الأسماء التالية: بريخت؛ ستانسلافسكي؛ مايرخولد؛ بيرانديللو؛ جان ألِكسَان. أمّا الأسماءُ الأولى فمُفرَدَةٌ؛ ويتميَّزُ الأخيرُ بأنَّ اسمَهُ الأول: مُفرَدٌ؛ أما الثاني: فمُثنَّى !.
بعد وفاة حسيب بعَقدَينِ مِن الزمان ابتُلِيتُ شخصياً.. بكائنٍ غيرِ مَسرحيٍّ؛ كتبَ تقريراَ ضِدَّ أستاذِه الدكتور نبيل الحَفَّار؛ لُيزيَحَهُ عن رئاسةِ تحريرِ مجلَّةِ “الحياة المسرحيّة” ولم يكِفَّ عن تقاريره.. حتى استلمَ تحريرَها بفرمانٍ أمنِيّ !. وسألتني زميلةٌ.. في تحقيقٍ لها عن حَالِ المجلاتِ الثقافيّة آنذاك واحدةً.. بعد أخرى: المَعرفة؛ الأسبوع الأدبيّ؛ الموقف الأدبيّ؛ مجلة الثقافة.. الخ؛ فلمّا سألتني عن الحياة المسرحيّة وكان مُؤسِسُها وأولُ رئيسِ تحريرٍ لها: سعد الله ونّوس؛ قلتُ: من سعد الله ونّوس.. إلى دون جَوَان جان؛ تِلكَ.. هِي المَهزَلة.
ثمّ اشتققتُ لهذا الكائنِ.. مُصطلحَ: نَاقُود؛ على وَزنِ “فاعُول” ومثلُهُ: جَارُوخ؛ فَاشُوش؛ رَابُوب؛ شَاكُوش؛ دَاسُوس؛ جاسوس الخ.