كان اليوم يوماً خليقاً ان اكتب عنه لأنني كنت في رحلة عميقة المعني والدلالات ولها ارتباط هائل في عوالم الشعور الحسية عندي ، حين اكتشف اماكن جديدة لم أزرها من قبل وتجشمت العناء الشديد للوصول اليها في جو شديد الهاجرة ودرجة الحرارة في أخفض بقعة في فوق الارض قاطبة .
ذهبنا الى قرية المعمورة وتغدينا عند الرجل الطيب المضياف الكريم سليمان السعيديين ابو مقبول وصلينا صلاة الظهر في مسجد هذه القرية الطيبة بأهلها البسطاء الذين ما يزالون على الفطرة والصفاء والنقاء .
كان رفيقاي فايز محمود الرفيفة ويوسف احمد العدوان وقد برّح بنا الحر الشديد ورائحة الملح التي تنبعث من ملاّحات شواطئ البحر الميت التي يفور على حوافها لهيب الشمس الحارقة الشديد السطوع في هذا اليوم من ايام الصيف المشتعلة .
بعد الغداء ذهبنا الى زيارة كهف النبي الكريم لوط عليه السلام الذي أختبأ به مع ابنتيه بعد ان حلّ العذاب بالقرى السبع لقوم لوط وهي سدوم وزغر وساعورا التي كانت ترتكب الفاحشة التي ما سبقها اليها احد من العالمين فكان الامر الالهي لسيدنا لوط عليه السلام أن يسري بأهله بقطعة من الليل ولا يلتفتون خلفهم ابداً الا امرأته التي قدر لها ان تكون من الغابرين وأصابها من العذاب ما أصاب قومها .
لقد كان الكهف يصعد اليه بأدراج طويلة متعبة ومرهقة في مثل هذا الطقس المجنون ، ولكننا كنا اشدّ تصميماً للوصول الى أعماق الكهف الذي يرتفع بعيداً في قلب الجبل العالي الذي يقابل البحر الميت على الجهة الشرقية .
لقد ارتقيت الدرجات وتقطعت انفاسي وفار العرق الغزير من كل مساحة وخلقة في جسدي ولكنني أريد ان ارى الكهف الذي احتمى به النبي الكريم عليه السلام مع ابنتيهِ بعد أن صدر الامر الالهي في الليل لسيدنا جبريل عليه السلام ان يحمل القرى السبع الخاطئة على طرف جناحه ويقتلعها من الارض ويصعد بها الى السماء الدنيا حتى يسمع اهلها نباح الكلاب وصياح الديوك ثم تكون الخاتمة بقلب هذه القرى وتدميرها دماراً شاملاً بعد ان كانت تعيش في رغد العيش وبحبوحة الحياة .
لقد تحملت الم الصعود الحاد على الدرجات الكبيرة التي تفضي الى بطن الجبل العالي الشاهق لأرى الدليل المادي المحسوس لهذا المكان الذي ضم في اعماقه ذلك النبي الكريم ولأشاهد بناء المظله الحديدية العملاقة امام باب الكهف والترميم والجهد الكبير الذي يبذل رغم اننا لم نرى احد من العملاء لأن اليوم هو يوم السبت وهو عطلة رسمية ولكن أثارهم تدل عليهم .
كانت رحلة روحية عميقة أثرت في نفسي لأن هذه القصة خلدها القرآن الكريم في الآيات الكريمة التي تحدثت عن هذا الانسان العظيم ونطقت عن لسانه حين قال بحزن وهم شديد :
– لو ان بي قوة أو آوي الى ركن شديد .
وطلب من قومه أن لا يخزوه في ضيوفه ، وكانت إرادة الله لهم بالمرصاد حيث دمرّت هذه القرى الظالم أهلها وجعلتهم أثراً يعد عين وعبرة لمن يريد ان يعتبر من أهل الخطيئة .
وكان المنظر مدهشاً وفريداً وفاتناً فتنة طاغية تستحق الوقوف والنزول والترجل من السيارة لتصوير هذا المنظر البديع لتلك الجدران الصخرية والتشكيلات الرائعة المدهشة من هذا الجمال الذي ابدعته القدرة الالهية سبحانك يا ربي ما اعظم قدرتك ، هذه الحيطان الضخمة العملاقة في منطقة الزارة الشرقية التي تقف بمهابة وفخامة أمام البحر الميت لتروي قصة سدوم واخواتها وما حدث لهنّ حين تجاوزن كل الخطوط الحمراء فكان الانفجار البركاني الرهيب وقلب القرى رأساً على عقب عقاباً اليها لهؤلاء المكذبين والمستهترين بما وعدهم نبيهم الكريم من العذاب الالهي .
لو كانت لدي الفرصة للتصوير والتأمل في هذا المكان الذي يوحي بالكثير من الأفكار والتأملات والأسئلة القلقة المحيرة ، انّ هذا شيء في منتهى الجمال لم اشاهد مثله من قبل ويحتاج الى الوقت الطويل للعبرة والتأمل والمشاهدة وقد غامرنا ولم نستعد لصعود هذه الجبال الشاهقة حتى وصلنا الى النصب الطويل الشاهق الذي تحول الى اسطورة وخرافة وطوله سبعة امتار ويقولون أنه لامرأة سيدنا لوط عليه السلام التي تحولت الى عامود من الملح الذي تحجر فيما بعد ، وقد تصورت عنده واعتقد ان هنالك مبالغة كبير فيما ردده عوام الناس فهو لا يعدو كونه عامود من الحجر الشاهق نحتته عوامل الطبيعة من الشمس الحارة والمطر والرياح التي تضرب سفوح هذه الجبال البركانية السوداء .
لقد مشينا وصعدنا مسافة طويلة لنقف عند هذه المسلة الطويلة وتحملنا عناء الصعود الحاد ونزفنا العرق الشديد ، ورغم التعب والجهد كنت في قمة السعادة والنشاط والانفعال الشديد وانا ارتقي هذه المنحدرات الصخرية الهائلة في ضخامتها واراقب عملية التبخر في مياه البحر الميت وترسب كميات الملح البيضاء على شواطئه الشرقية التي يغمرها الصمت والهدوء وتخلو من أي شاهد على وجود حياة .
كان الصمت العميق يلف المكان والرهبة والسحر الجميل والمناظر التي تهيج النفس التي كانت تلتمس السلوى وتخفيف ظغوط الحياة العنيفة ، كنت في حاجة ماسة للخروج من مدائن الطين والهروب الى لحظات من المتعة الحقيقية التي جسدها هذا المشهد البانورامي الصخري ذو التشكيلات والتفاصيل التكوينية العجيبة التي تحتاج الى ريشة رسام وقلم كاتب ،أشياء تفوق الخيال والوصف ربما لا ينتبه اليها المارّون العاديون ولكنّ هذه اللوحات الجميلة المدهشة تحتاج الى وقفة تأمل طويلة لا عبوراً سريعاً ربما تضيع من خلاله الكثير من الأسرار والدقائق .
هكذا يا اصدقائي بعد أن امتلأت روحي بالنشوة شعرت بقطرات من رحيق الإلهام تتكون في اقصى نقطة من العقل الواعي لديّ وأحسست برغبة فياضة بالكتابة عن هذه التجربة الجديدة ، التي اختلط فيها التأمل مع الإعجاب الشديد والتعجب الذي بلا حدود لقدرة الخالق سبحانه وتعالى في ابداع هذا التكوين الفريد الذي تتقاصر دونه قدرة الإنسان الضئيلة والتي لا يمكن أن يبدعها انسان مهما كانت قوته وقدرته وعبقريته .
ولا ريب أنني سأعود ومعي رفاقي من أصحاب الرؤية والإلهام لقراءة هذه الدفاتر الحجرية الغامضة المليئة بالذهول الشديد التي تقدم ثقافة بصرية تمتع العين والعقل والحواس وتملأ عالم البصيرة بالإرتقاء الروحي والمعرفي ،لقد مررت على عجل ولم اتمكن من قراءة المشهد كما ينبغي ولكنني عرفت ومن عرف فقد لزم ولا مناص من العودة للوقوف على هذه المتاهة اللامتناهية من السحر والعذوبة والشفافية وهذا الجمال المعجون بالفتنة الذي يفرض حضوراً قوياً على كلِّ اجزاء المشهد والمكان .
بقلم الشاعر الاديب والاعلامي احمد مزيد ابو ردن